فلسطين أون لاين

​مقدسيان يرويان ما جرى "في الميدان"

...
القدس المحتلة / غزة - فاطمة أبو حية

خمس صلوات في اليوم، أو قُل: خمسة مشاهد من البطولة المطلقة، فالمصلون عند أبواب الأقصى كانوا يؤدون الفرائض بين جنود الاحتلال، وهم يعرفون تمام المعرفة أن هؤلاء الجنود سيتحركون فور انتهاء الصلاة، سيقمعون ويبطشون، ومع ذلك هم يدعون على "الظالم" وعلى "بواباته الإلكترونية".

كيف بدت أجواء الصلاة في الاعتصام الذي استمر قرابة أسبوعين، عند بابي الأسباط والمجلس؛ قبل أن يتقهقر الاحتلال ويتراجع عن إجراءاته الأخيرة بحق المسجد الأقصى؟ هذا السؤال وجهته مراسلة صحيفة "فلسطين" إلى مرابطَيْن مقدسيين.

تفاصيل عن لحظات أداء الصلاة والاستعداد لها يرويها المقدسي عبد العفو زغير:

"خمس دقائق فقط تبقت على صلاة العشاء في 24 من الشهر الجاري، استعد المعتصمون عند باب الأسباط لصلاتهم، لكن قوات الاحتلال فضّت تجمّعهم بالقوة، فاضطروا إلى التجمع في مكان آخر، لمثل هذا المشهد يصعب رصد تفاصيل محددة لصلوات المعتصمين، فمكان الاعتصام تغير وتبدل من يوم إلى آخر، ومن فرض إلى آخر، وكل يوم جديد كان مليئًا بالمفاجآت، بسبب القمع المتكرر من قوات الاحتلال.

عادة ما تشكلت جماعات عدة، فصلت بينها مجموعات من جيش الاحتلال، وأحيانًا وصل عدد الجماعات في الشارع الواحد إلى أربع، ولم يكن ممكنا دمجها معًا بسبب قوات الاحتلال، وبفعل هذا الواقع إن أماكن إقامة الصلاة لم تكن ثابتة، والتجمعات عفوية.

للصلوات المتجاورة هذه نكهة خاصة لم يتذوقها المقدسيون من قبل، فهؤلاء الذين اعتادوا الصلاة في واحد من المساجد التي تُشد إليها الرحال وجدوا جمالًا آخر، تعرفوا إليه خارج أبواب الأقصى.

أن تصلي في مجموعة يحيط بها جنود الاحتلال المتأهبون لقمعك أنت ومن معك فور الانتهاء من صلاتك في هذا شعور جديد وغريب، وكذلك أن تسمع القرآن والدعاء من إمام المجموعة المجاورة لك، وتسمع: "آمين"، و"يا الله"، يرددها المصلون الذين يقفون على بعد أمتار منك، ويحول بينك وبينهم قوات احتلالية مدججة بالسلاح؛ فإن تداخل الأصوات يخلق موقفًا مؤثرا جدًّا، ويختلط التأثر بالتحدي، نظرًا إلى رباطة جأش المصلي الذي ينتظر الخطر في أي لحظة.

"السلام عليكم ورحمة الله" نهاية الصلاة للإمام والمأمومين، وفي الوقت نفسه تبدو كأنها شارة البدء للجنود المحيطين بهم، ليُعمِلوا أسلحتهم وأدوات قمعهم فور سماعها"، يختم المقدسي حديثه.

منظومة تجسسية

جانب آخر من المشهد في أثناء الصلاة في الاعتصام، يرويه لصحيفة "فلسطين" رئيس قسم المخطوطات والتراث الإسلامي في المسجد الأقصى رضوان عمرو، قائلًا:

ما جرى في كل يوم في الصلوات الخمس أن الناس احتشدت عند الأبواب بعفوية، واجتمعت على شيء واحد، هو رفض الدخول تحت هذه المنظومة التجسسية (البوابات الإلكترونية التي نصبها الاحتلال في 14 تموز (يوليو) الجاري قبل أن يزيلها أخيرًا) التي تحتقر أبسط حقوق الإنسان.

تجمعت الحشود عند آخر نقطة استطاعت الوصول إليها، وكان ذلك عند بابي الأسباط والمجلس، أما الأبواب الباقية فلم يكن الاحتلال قد فتحها أصلا منذ إغلاق المسجد في 14 تموز (يوليو) الجاري، في حين أن باب السلسلة كان مخصصا لخروج المستوطنين الذين يقتحمون الأقصى من باب المغاربة.

خلال رفع الأذان من الميدان أو باستخدام مكبرات صوت المسجد انتظمت الصفوف للصلاة بسرعة، وأحيانًا حدث ذلك قبل الأذان، والمشهد هنا مهيب، صفوف منتظمة، وطرق مغلقة، وحركة سير متوقفة، وأزقة حطة والأسباط والمجلس وطريق الواد مزدحمة بآلاف المصلين، دقيقة واحدة كافيةٌ لانتظام نحو ثمانية آلاف لأداء الصلاة.

ومن جماليات هذا المشهد مشكلة غياب السماعات وعدم وصول صوت الإمام إلى كل المصلين، لذا عند تكبير الإمام يكبر معه كل المصلين، وتبدأ حركة الصفوف بالتتابع، فيركع صف أو يسجد، ويتبعه آخر.

مشكلة الصوت أنتجت جمالًا آخر أيضًا، ورسمت مشهدًا مؤثرًا تقشعر له أبدان من يعيشه، ففي أثناء الدعاء الذي يتخلل الصلاة لم يكد صوت الإمام يصل إلى الصفوف العشرة الأولى، فماذا عمّن يبعدون عنه مئات الأمتار؟، هؤلاء رددوا بصوت واحد: "يا الله، يا الله، يا الله"، وكلهم ثقة بدعوات الإمام التي لا يسمعونها، حتى إن العبرات تنساب من المآقي في هذه اللحظات.

هنا، تجد شابًّا بسيطًا، ترك تعليمه ليعيل أهله، أو يعمل ليكمل دراسته، يمر بظروف في غاية الصعوبة، يختار المكان الأكثر خطورة، يتوجه إلى نقطة التماس للصلاة فيها، ولا يرضى بسوى أقرب مكان للجنود، يبكي هو، ويُبكي من حوله في القنوت، ويجلس بعد الصلاة يدعو.

في تموز (يوليو) من الطبيعي أن "يغلي" الأسفلت، ومع ذلك تُقبل إليه الجباه بكل خشوع، ما أغرب أن تكون أجمل الصلوات في شارع يحتفظ بالحرارة حتى في أوقات صلوات العشاء والفجر!

هذا الجمال سمعناه في أحاديث الصحفيين الأجانب فيما بينهم، أو في كلماتهم لقنواتهم، محاولين أن يجدوا وصفًا للمقدسيين الغاضبين الذين انتشروا في كل مكان، وكانوا ينتظمون فجأة بمجرد سماع صوت شخص واحد يقول: "الله أكبر".

صلاة الجمعة كانت غير مسبوقة أثناء حصار الأقصى، ألوف مؤلفة جاءت من الضفة والداخل المحتل سنة 1948م، وأُغلقت كل مساجد القدس المحتلة، ووقف الجميع في الشوارع لا يرهبهم أي بطش من الاحتلال، وكان من روعة المشهد انضمام مسيحيين فلسطينيين من المدينة المقدسة إلى الصفوف، أنصتوا مع المسلمين إلى الخطبة، ووقفوا بينهم في أثناء الصلاة.

إمامة الصلوات غالبًا كانت للمرجعية التي أفرزتها هذه الجماهير لتقود الكلمة في القدس، مرجعية شرعية وعلمية، من علماء القدس ورجال الأوقاف، وكذلك الإمامة متاحة للشباب.

أما النساء السباقات في التضحية لأجل الأقصى فكُنَّ جزءا لا يتجزأ من الحراك، وفي الصلاة مكانهن محفوظ، كن يصلين خلف الرجال تمامًا كما حالهن داخل الأقصى.

هنا انتهت رواية الناشط المقدسي "عمرو"، لكن نضال المقدسيين –كما يؤكدون- مستمر حتى تحرير المدينة المقدسة من الاحتلال الإسرائيلي.