على قاعدة إذا أردت السلم عليك أن تستعد للحرب، يظهر بوتين كرجل استراتيجي، خلفيته الاستخبارية السابقة في العمل خارج روسيا والجرأة التي اكتسبها، والخبرة التي مارسها في وقوف روسيا على قدميها من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتركة المترهلة التي ورثها من المخمور يلتسن، أهلته لإتقان اللعب سياسياً في الساحة الخارجية، لحماية أمن روسيا القومي من تمدد حلف شمال الأطلسي.
فقد صادق الرئيس الروسي على وثيقة العقيدة العسكرية الجديدة في العام ٢٠١٤، والتي تعتبر حلف الناتو التهديد الأساسي لروسيا، تحديداً بعد تصويت البرلمان الأوكراني في نفس العام على إلغاء اتفاقية سابقة تنص على حياد أوكرانيا وطلب انضمامها لحلف الناتو، ما شكل تعدياً للخطوط الحمر بالنسبة لروسيا.
وتمثل اعتبار بوتين أن تمدد حلف الناتو تجاه حدود روسيا ونشر أسلحة استراتيجية وأنظمة دفاع صاروخي بالسيتية كونية في أوروبا الشرقية، تهديداً مباشراً لأمنها القومي والإقليمي، وهنا يتضح أن أهداف بوتين تنطلق من هذا الاعتبار التهديدي، فبدأ حرباً هجومية تكتيكية لتحقيق عدة أهداف دفاعية استراتيجية، أولها ولضمان استمرارية السيطرة عليها، الاعتراف الدولي بشبه جزيرة القرم التي تضم ميناء سيفاستوبول الحيوي جداً، فهو المنفذ البحري الوحيد لروسيا للبحار الجنوبية خاصة البحر المتوسط وسوريا.. ولولا سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وميناء سيفاستوبول في العام ٢٠١٤ خاصة بعد الاطاحة بالرئيس الأوكراني المقرب لبوتين يانكوفيتش، وصعود زيلينسكي وميوله الغربية نحو الاتحاد الأوروبي والناتو، لأصبح ميناء سيفاستوبول في أحد الأيام قاعدة بحرية لأساطيل حلف الناتو حال انضمت أوكرانيا للحلف، وهو مايستحيل أن يقبله بوتين، لذلك عمل على تحويل هذا التحدي الخطير إلى فرصة انتهازية، وتجنب هذه الكارثة من منطلق أمنه القومي ونجح فيها بجدارة مستخدماً استفتاء سكان شبه جزيرة القرم لضمها لروسيا.
الهدف الاستراتيجي الثاني لبوتين هو عدم السماح مطلقاً لأوكرانيا بالتفكير مجدداً بالانضمام لحلف الناتو، وذلك عن طريق تغيير النظام الحاكم الموالي للغرب، أو التوصل لاتفاق وضمانات أمنية وعسكرية، فعمل على تجزئة هذا الهدف لعدة أهداف تكتيكية.
1. تحشدات إظهار القوة والاستعراض، رغبة في بدء مفاوضات قبل فتح النيران وهو مالم تفهمه أوكرانيا وتعالت عليه الولايات المتحدة.
2. ضم اقليم دونباس كما حدث سابقاً في شبه جزيرة القرم وفي أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا، أيضاً هنا تعالت الولايات المتحدة ولم يعتبر زيلنسكي معتقداً بحماية بايدن ووعوداته.
3. بدء عمليات الضغط العسكري والعمل على خطوط العمليات الخارجية، وهنا لاقت القطعات الروسية المهاجمة دفاعات أوكرانية قوية خاصة في المدن الاستراتيجية مثل خاركيف ومشارف العاصمة كييف، ويبدو هنا أن الخطة الروسية بدأت تواجه بعض المتاعب تكتيكياً على الأرض مع تكثيف الدعم العسكري الغربي، وسياسياً خاصة مع تأخر الاستجابة التي كانوا يعتقدونها.
ومع ذلك يُتوقع ألا يتراجع بوتين أبداً عن أهدافه، وكلما مر الوقت كلما زادت خسائر الطرفين، ولأن بوتين لاعب استراتيجي يقوم بالمراهنات، ويتحمل الخسائر تكتيكياً، فيتجه لاستراتيجية الفوضى التي تجبر أوكرانيا على الرضوخ، مستعيناً بالانفصاليين بتسريع الانهيار الداخلي، وعلى أمل شعور الشعب الأوكراني شيئاً فشيئاً بسوء التقدير الذي وقع فيه زيلنسكي ومراهنته الفاشلة على الغرب، وبالتالي فقدان إرادة القتال وانهيار الدفاعات والجيش الأوكراني وصولاً للسيطرة على العاصمة كييف. عدا عن علم الولايات المتحدة وحلفاءها أن استراتيجية الفوضى وإطالة أمد الحرب، دون التوصل لأي اتفاق سياسي وضمانات أمنية، ستجر فوضى أخرى لمناطق أخرى لن يكون فيها منتصر، لذلك تبدو الولايات المتحدة حالياً في طور امتصاص الصدمة، عنيدة (مؤقتاً) في موافقها، لاعتبار أن ما قام به بوتين تحدياً حقيقياً لجبروتها الكوني، وأولى خطوات تململ الدب الروسي ليحجز مكاناً موازياً لمكانتها الكونية. الذي يمتلك ٦٠٠٠ مخلباً نووياً، وما كان لهذا الدب بهذه القوة أن يبقى مقيداً ومهدداً وفق بوتين.