بكثير من مشاعر الألم والامتعاض أكتب هذه الأسطر، التي أُحاول فيها معالجة بعض فقرات من خطاب الأخ الرئيس أبو مازن، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 24 من الشهر الماضي.
بداية أقول إن مصدر كل اقتباس من نصَّ هذا الخطاب، هو ما نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية، «وفا».
تقول الجملة الأولى: «في هذا العام يَكونُ قد مرَّ على النكبةِ الفلسطينية، 73 عامًا، حيثُ طُردَ أكثرُ من نصفِ الشعبِ الفلسطيني في حينهِ من أرضهِم، وتمَّ الاستيلاءُ على أملاكِهم».
توقفت طويلًا عند الكلمة الـ13 في هذا النصّ. كلمة «طُردَ». فالكلمة فعل ماضٍ مبني للمجهول! (ويعرف الأخ الرئيس الكاتب أبو مازن، الذي أعادت «دار الشروق» قبل أسابيع قليلة، نشر أكثر من عشرة كُتب له، الفرق بين تضمين النّصّ فعلًا مبنيًا للمجهول، وفعلًا معروف الفاعل). فهل غاب عنه أن فاعلَ فعلِ طرد «أكثر من نصفِ الشعبِ الفلسطيني في حينه» مجهول؟ أليسَ الفاعل معلومًا؟ أليس هو المنظّمات والعصابات العسكريّة الصهيونية التي أصبحت لاحقًا كتائب وفرقًا وفيالق تشكّلَ منها ما أطلق عليه «مهندس» إعلان إقامة «دولة إسرائيل» دافيد بن غوريون، اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي» بعد أسبوع واحد فقط من ذلك الإعلان؟
ثم، أليست تلك العصابات هي «إيتسل» بقيادة مناحيم بيغن، التي اعتبرتها حكومة الانتداب/الاستعمار البريطاني، (وكذلك «لجنة التحقيق الأنكلوأمريكية لشؤون فلسطين» بل و«الوكالة اليهودية» أيضًا، والعديد من الصحف العالمية) أنها عصابة إرهابية، وزادت حكومة الانتداب بنشر صورة بيغن على ملصقات رسمية تحت كلمة «مطلوب» للعدالة؟
وما يقال عن إيتسل وقائدها، ينطبق على عصابة «ليحي» وقائدها، إسحق شامير، وهي العصابة التي قتلت أول مندوب للأمم المتحدة، الكونت السويدي، فولك برنادوت، يوم 17 أيلول/سبتمبر 1948؟ ويضاف إلى بيغن وشامير وغيرهما أيضًا، إسحق رابين، قائد عصابة الـ«بلماح» المنبثقة عن الـ«هاغاناة» بقيادة بن غوريون، والتي نفّذت عمليات طرد سكان مدينتي اللد والرملة؟
تمالكت أعصابي، بصعوبة، بعد قراءة فعل الطرد «المبني للمجهول» (والمعلوم جدًا) وأكملت قراءة الجملة التي تنتهي بـ«وتمَّ الاستيلاءُ على أملاكِهم». نعم، هكذا.. وبالنّصّ. الفعل هو «تمَّ».. أمّا من هو ذلك «الفاعل» الذي استولى، فتلك مسألة أُخرى، في نظر من صاغ، أو من صاغوا، ذلك الخطاب، وكذلك من ألقاه.
يقولون: يُقرأ الكتاب من عنوانه. لكن، ورغم ذلك، استمريت في قراءة نصّ الخطاب، من باب «لعلّ وعسى».. وعلى أمل العثور في فقراته على ما قد يسمح بتجاوز هذه «الهفوة» لتتيح لي التعلّل بـ«لكل حصانٍ كبوة» خاصة وأن بعض التعليقات السريعة على الخطاب، تحدّثت عن احتوائه على «مبادرة». لكن ما حصل هو العكس.
لما تقدّم دلالاتٍ ومعانٍ جديرة بالاهتمام، فالمسألة ليست مجرّد صياغات لغوية. إنها علامات تشير الى أداءٍ وعقليةٍ وتفكيرٍ غير سليم، (حتى لا اقول أكثر من ذلك). ولكن، لا يجوز لما تقدّم أن يحجب ما هو أهم منه. وفي نصّ الخطاب ما هو أهم منه.
جاء في نصّ الخطاب: «ومن هنا، أدعو السيد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، للعمل بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بالحماية، وآخرُها القرار الصادر عن الجمعية العامة، في جلستها الاستثنائية الطارئة، في يونيو 2018، تحت صيغة «متحدون من أجل السلم» لوضع ما يلزم لتشكيل آليةٍ دوليةٍ للحماية، كما ورد في تقريره الصادر في أغسطس 2018 لتفعيل هذه الآلية على حدود الأرض الفلسطينية المحتلة في العام 1967، بما فيها القدس، لتوفير الحماية الدولية».
وبالتوازي مع تأمين آلية الحماية الدولية، ووفق ما جاء في القرار أعلاه، أُطالب الأمين العام بالدعوة لمؤتمر دولي للسلام، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وقرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية وتحت رعاية الرباعية الدولية، فقط وليس غيرها».
هذه هي إذن «المبادرة»: طلب الحماية الدولية، وحثّ الأمين العام للأمم المتحدة على الدعوة لـ«مؤتمر دولي للسلام».
لو انتهى الخطاب عند هذه النقطة لأمكن لنا تقييمه على أنه خطاب عادي مكرّر. ولكنه لم ينتهِ عندها، حيث يتابع: «وحتى لا تبقى مبادرتُنا هذه دون سقفٍ زمني، نقول إنّ أمام سلطات الاحتلال الإسرائيلي عامٌ واحدٌ لتنسحبَ من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، بما فيها القدس الشرقية..»..
هكذا، وبجرّة قلم، (أو قل بفقرة من خطاب) تبرّعت «الشّرعية الفلسطينية» بتقديم هديّة مجّانية لابنتي الحركة الصهيونية العنصرية: دولة (إسرائيل)، وإمبراطورية (إسرائيل)، هي 15377265 (15مليون و377 ألف و265) سنة من أعمار الفلسطينيين المنتشرين في مناطق النكبة 1948، ومناطق النّكسة 1967، ودول اللّجوء للاجئين سنة 1948، ودول النّزوح للنّازحين سنة 1967، ودول الشّتات في كل أصقاع الأرض: من أُستراليا الى التشيلي، ومن جنوب الكرة الأرضية الى شمالها. (حسب آخر عملية إحصاء شاملة لجميع الفلسطينيين في العالم).
ثم، ماذا ستكون الخطوة الفلسطينية التالية، حسب الخطاب؟ يقول النصّ: «من ناحية أُخرى، سنتوجه الى محكمة العدل الدولية، باعتبارها الهيئة الأعلى في القضاء الدولي، لاتخاذ قرارٍ حول شرعية وجود الاحتلال على أرض دولة فلسطين، والمسؤوليات المترتّبة على الأمم المتحدة ودول العالم إزاء ذلك. وسوف يتوجب على الجميع التقيّد بنتائج ما سيصدر عن المحكمة بهذا الصدد، فالاستعمار والأبارتهايد محظوران في القانون الدولي، وهما جرائم يجب مواجهتها، ومنظومةٌ يجب تفكيكها».
يملك كل فلسطيني حق توجيه أسئلة لـ(رئيس الشرعية الفلسطينية)، الأخ أبو مازن: لماذا تبرَّعت بسنة كاملة من عمري لـ(إسرائيل)؟
إذا كنت تعتقد أن «الترياق» من سمّ الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، يمكن أن يأتي من التوجّه الى محكمة العدل الدولية، فلماذا لم تتوجه إليها منذ سنوات؟ ومنذ أن أصبح ذلك ممكنًا؟ وفي أسوأ الحالات: لماذا لا تتوجه الى هناك اليوم؟ وما هي الحكمة من وراء تأجيل ذلك سنة كاملة؟
يتساءل الأخ ابو مازن في خطابه: «هل يحلم حكام إسرائيل ببقاء الاحتلال الى الأبد؟ هل يريدون هذا الاحتلال الى الأبد؟».
أكاد أنا، (رغم معاناتي من ضعف في السّمع) أن أسمع جواب (إسرائيل) على تساؤل الأخ أبو مازن: «نعم.. وليس للأبد فقط، بل الى أبد الآبدين أيضًا».
لو لم أكن أعرف الأخ الرئيس أبو مازن، حقّ المعرفة، على مدى العقود الخمسة الماضية، لتشكّلت عندي شكوك كبيرة بنواياه. لكنني أعرفه حقّ المعرفة. ولم تراودني شكوك بنواياه ولا بصدق وطنيته وصفائها.
لكن أبو مازن يعاني من ثلاثة عيوب كبيره:
1- تساهل وسهولة مُبالغٌ فيها في بناء تحالفات وصداقات شخصية، مع سهولة مبالغ فيها في التّخلي عن تلك التحالفات والصداقات، واستبدالها بعداوات لا مبرّرَ مقنع لها.
2- عناد مفرط بالتمسك بقناعات صائبة جدًا، (في الغالب الأعم) عند التوصّل إليها، وإصرار على مواصلة التمسك بها عندما تتغير الظروف والأحوال: من مسألة ضرورة المفاوضات، الى موضوع اعتماد أساليب نضال مشروعة في مواجهة تعنّت سلطات الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. (وهل من داعٍ للتذكير بمقولة موشي ديان: «تغيرت الظروف والمعطيات فتغيّر رأيي، و...»).
3- التسرّع بتقديم تنازلات مجّانية: من «لن أعود الى صفد» الى «التنسيق الأمني مقدّس» وغير ذلك الكثير.
لم يحِنْ بعد وقت محاولة تقييم شامل ونهائي لـ«عهد أبو مازن». وما زالت، (حتى الآن على الأقل) فسحة من الوقت أمام أبو مازن، لإعادة التفكير والتقييم لإصلاح ما يمكن إصلاحه.