فلسطين أون لاين

اليان في العناية المركزة بدل المدرسة

في ليلة دامية.. صاروخ "إف 16" احتل "قلب" رنا وكاد يقتل العشرات

...
غزة- نبيل سنونو:

- رنا، هل أنت بخير؟ منزل الجيران قُصف، يبدو أن هناك فتحة في جدار شقتك، ماذا عن فاطمة؟ (طفلتها التي تبلغ عامين ونصف).
في هذه اللحظة التي تلقَّت فيها رنا النبأ، كان منزل عائلة بربخ (محارب) في خان يونس جنوب قطاع غزة حُوِّل إلى مسرح لإجلاء الجرحى.
دقائق وأغمي على رنا، التي صُدمت من هول المشهد، عندما رأت صاروخًا ألقته طائرة حربية "إف 16" "ممددًا" على سريرها.
20 مايو/أيار، هذا اليوم الذي غاب فيه إشراق شمس الصباح عن رنا أبو حدايد وعائلة محارب، حمل في طياته "معجزة"، كانت معينة لهم على مواجهة مجزرة كادت أن تكون محققة.

عند منتصف الليل، تحامل المسن ذو الإعاقة البصرية عبد الله بربخ على نفسه، علَّ النوم يلامس جفونه المنهكة.

الليل أرخى هدوءه على قطاع غزة، لكن "الغربان" التي تنتهك أجواءه كانت تسحق هذا السكون، وتحيله إلى ساحة عدوان لا يتوقف.
وسيم (الابن الأكبر) للمسن عبد الله، حاول أيضًا الخلود إلى النوم. إنه اليوم الذي سيسافر فيه صباحًا مع أبيه إلى مصر في رحلة علاجية، بعدما حجزوا له عند أحد أطباء العيون.

وسيم يخاطب أطفاله: كنزي (7أعوام)، وعبد الله ودانيا وأوس ومحمد (5 أشهر):

- الدنيا شوب يابا، والكهربا قاطعة، يلا نفرش في البلكونة، مطرفة على الشارع وهاوية.

- لا، بنامش في البلكونة، بدنا ننام في وسط الدار.
لم يأمن الأطفال على أنفسهم، من قصف مدفعية الاحتلال، وفضلوا الحر على الخوف.

غطَّت سحب الدخان المنزل، ظن وسيم الذي يقطن في الطابق الثاني في العمارة المكونة من أربعة طوابق، أن قصفًا استهدف منزلًا مجاورًا لهم، وهمَّ لمساعدة الجيران.

في عتمة الليل وانقطاع الكهرباء، الكل يتساءل: وين القصف؟
دب الصراخ المكان، وبمجرد أن نزل أحد إخوة وسيم إلى شقته، مغطى مع أولاده بالدماء، أدرك الجميع أن الصواريخ استهدفت منزلهم.
"خلال ثلاث دقائق كانت الصواريخ أصابت المنزل الذي تواجد فيه 30 شخصًا جُلهم أطفال".

صاروخان من طائرة حربية بدون طيار قصفا المنزل، قبل أن يلحق بهما صاروخ من طائرة حربية "إف 16".

مصابون وشظايا، وركام، ودماء، أيقظت الآمنين دون رحمة.
لم يتوقع أي منهم أن يكونوا الهدف التالي لصواريخ الاحتلال التي أوقعت أكثر من 200 شهيد ومئات الجرحى.

في هذه العمارة التي يقطنها خمسة إخوة مع زوجاتهم وأطفالهم، كانوا يتجهزون في أواخر رمضان، كما جرت العادة لاستقبال عيد الفطر وإقامة طقوسه، لولا العدوان الذي داهمهم ونغَّص عليهم فرحتهم.
انهمرت الصواريخ على قطاع غزة من شماله حتى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، كرر المحتل مجازره على مرأى ومسمع العالم الصامت.
كلما اخترق مسامع أطفاله صوت القصف أو شاهدوا الجرحى والشهداء في التلفاز همّوا بصنع "ساتر" من الفرشات والوسائد، علَّه يحميهم.
هكذا يفكرون ببراءة كالفراشات، أو العصافير التي تزقزق وتتنقل من مكان إلى آخر، لئلا يصطادها أحد.

قبيل العيد اشتروا الملابس الجديدة، وأخبرهم والدهم أنه سيصطحبهم معه إلى بيوت أقربائهم لصلة أرحامهم، فتحمسوا واعتلت البسمات محياهم.
ولما انهمرت الصواريخ على رؤوس المدنيين في غزة، أعادوا ملابسهم الجديدة إلى أدراجها، وعلموا أنهم سيقضون العيد في المنازل، إن لم ينزحوا منها.

"الأطفال أحب ما عليهم الطلعة، مش يقضوا العيد في البيت، لكنهم بفعل العدوان خبوا أواعيهم"، قال وسيم في نفسه آنذاك.
يتكئ المسن عبد الله على ما تبقى فيه من قوة، غير مصدق ما حدث معه.
في ليلة 20 مايو/أيار استقر رأسه على وسادته لبرهة، كان ذلك "إنجازًا" في زمن توقظ فيه الصواريخ كل حي في القطاع.
تحوَّل لون المنزل إلى أسود، بات الجميع يستنشق الدخان، وصراخ الأطفال يسيطر على المشهد، والدم يقطر من بعضهم.
همَّ الأبناء بتفقد أبيهم، وأسرهم لإنقاذ من يمكن إنقاذه، نقلوا المصابين إلى المستشفى، دون أن يدركوا كيف تم ذلك من هول ما تعرضوا له.

ألم بعد الغبار

اخترق الصاروخان الأول والثاني، طوابق عدة في العمارة، أما الثالث فأكمل طريقه إلى بيت الجيران، من عائلة أبو حدايد.
عندما انقشع الغبار، حل مكانه الألم، الطفل محمد الذي لم يرَ من نور الدنيا سوى أربعة أشهر أصيب، والطفلة اليان ذات التسعة أعوام في العناية المركزة وتعاني من إصابة في الطحال، ولن تعود إلى مدرستها قريبًا، وطفل (4 أعوام) وشاب (32 عامًا) وآخر (36 عامًا) أصيبوا بشظايا، وسيدة (38 عامًا).

والطفل محمد هو الوحيد لوالديه من الذكور بعد أربع شقيقات، ويوصف وضعه طبيًّا بأنه مستقر حيث أصابته بعض الشظايا والاختناق.
يتنهد وسيم، ونظراته تنشد شفاء إخوته وأطفالهم المصابين.
وعندما طلع الصباح تفاجأ أطفال وسيم الذين لم يصابوا باستثناء أحدهم ونقلوا إلى مكان آمن من عدم سفر أبيهم، وبدأت أسئلتهم عما حدث وعن أفراد العائلة تنهال عليه.

لم يعد أبناؤه يطيقون العودة إلى منزلهم الذي لا يصلح حاليًّا للسكن.
أما زوجة وسيم فأصابها الانهيار العصبي وأدخلت إلى المستشفى لتلقي العلاج.

وجريمة الاحتلال ذات أبعاد متعددة، فهي أعاقت سفر المسن عبد الله الذي سيتأثر وضعه سلبيًّا، إذ إنه مصاب بالإعاقة البصرية منذ 20 عامًا وبمرض السكر.

لكن هذا ليس كل شيء، إذ إن صاروخ الـ"إف 16" الذي اخترق جدار منزل رنا أبو حدايد المجاور لمنزل عائلة محارب.

كانت رنا صائمة في اليوم السابق لهذه الجريمة، وما إن حل موعد الإفطار حتى تناولت طعامها وتلقت اتصالًا من أهلها، الذين عرضوا عليها المبيت مع طفلتها فاطمة لديهم، فوافقت.

يوم الجريمة تلقت النبأ، وهرعت إلى بيتها، لتفقده، ولما دخلته بوغتت بمشهد صاروخ الـ"إف 16" الذي لم ينفجر يحتل سريرها، كما احتل الخوف قلبها.

سارعت إلى درج المنزل وهي تقول: "صاروخ.. صاروخ في البيت".
وفي نفس العمارة تقطن أيضًا سيدة مع أطفالها، وكانوا نيامًا في مكان الغرفة ذاته بالطابق السفلي.

لم تتمالك رنا أعصابها، من هذا الصاروخ الذي كاد أن يودي بحياة العشرات، ولم تستعد وعيها إلا بسكب الماء عليها.