المفهوم أن الغرب عمومًا يخطط مواقفه من التطورات في المنطقة بحيث تستفيد (إسرائيل) من كل هذه التطورات، فقبل عام 2011 كانت المنطقة العربية قد استسلمت لـ(إسرائيل)، وكانت بعض الدول التي استعصت على التطبيع مثل السعودية والخليج تتردد في إعلان علاقاتها بـ(إسرائيل) ثم قامت ثورات الشعوب العربية عام 2011 في الدول الجمهورية وحدها، فسارعت (إسرائيل) إلى التحالف مع القوى المناهضة لهذه الثورات في هذه الموجة الأولى؛ لأن هذه الثورات قامت ضد حلفاء (إسرائيل) في مصر وغيرها.
ولذلك فإن هذه الثورات كانت ستغير خريطة المنطقة فتقضي على تبعية المنطقة لـ(إسرائيل) والولايات المتحدة وتحقق لأول مرة استقلالًا عربيًّا ثم تُنهي الحكم الأُسري والحزبي والعسكري في المنطقة العربية، ثم تنصّب الشعوب في مقاعد الحكم وتطلق الطاقات العربية والإبداع العربي، ما كان من شأنه أن يغيِّر خرائط المنطقة ويرسم علامة استفهام حول مصير السرطان الصهيوني الذي يعيش على ثغرات الجسد العربي.
ولذلك تحالفت (إسرائيل) مع القوى التي قامت ضدها الثورات ووضعت لكل بلد روشتة خاصة به للقضاء عليه وتحميل الشعوب المسؤولية عن خراب أوطانهم، مع أن هذه الشعوب صبرت طويلًا على سفاهة الحكام وفسادهم ثم أعلنت رفضها الوضع القائم وطالبت بالتغيير في ثورات سلمية حضارية غير مسلحة رغم الأحكام العرفية وحالة الطوارئ وسطوة الأمن في الدول العربية التي قامت فيها الثورات، ويطول المقام في شرح صور مواجهة هذه الثورات في كل بلد على حدة، لكن برامج المواجهة دبرت مع القوى المحلية والتي وقفت موقف العداء من هذه الثورات جميعًا التي تطاولت على الحكام الذين اعتبروا أنفسهم من جينات مختلفة وأنهم فوق المساءلة والحساب، واتهموا هذه الثورات أنها من تدبير واشنطن وزوروا مذكرات لهيلاري كلينتون بهذا المعنى ولكنها كانت محاولة فاشلة كشفت عن ثلاثة دروس واضحة.
الدرس الأول هو أن للحكام مصالح مشتركة مع (إسرائيل) وواشنطن وأنهم يتمسكون بالوضع الراهن ويرفضون التغيير. الدرس الثاني أن واشنطن تدير أمور العالم العربي بشكل مباشر لا يستطيع حاكم أن يزعم أنه مستقل وأن خطاب التوصية للبيت الأبيض لقبوله يصدر من (إسرائيل). الدرس الثالث هو كذب (إسرائيل) التي روجت أنها جاءت إلى المنطقة لكي تنقل تجربتها الديمقراطية إلى المحيط العربي فكشفت مواقفها من الثورات العربية هذا الزيف، وأكدت هذه المواقف أن بقاء (إسرائيل) مرهون بالاستبداد العربي وتقويته وأن الديمقراطية العربية تنهي وجود (إسرائيل) التي تعيش على أمراض المنطقة العربية التي كان لها دخل كبير فيها.
تلك كانت الموجة الأولى من الثورات العربية، وبعدها انطلقت (إسرائيل) بعد قمع هذه الثورات ومعاقبة المشاركين فيها إلى المجاهرة بما كانت تخفيه تدليسًا وكذبًا وهو أنها تريد الديمقراطية للمنطقة والسلام في فلسطين فأعلنت أنها منذ البداية تريد كل فلسطين وأنها أخفت هذه الحقيقة عن العرب والعالم ودخلت في مفاوضات عبثية حتى تستهلك الوقت وتكسبه، فلما هزمت الثورات العربية زال عنها الروع وتنفست الصعداء، بل واحتفلت مع قوى المنطقة المضادة للثورات بالقضاء المبرم على روح الثورة عند العرب. ولكن (إسرائيل) فوجئت بأن الثورات العربية بدأت تستأنف بشكل أكثر جذرية ووضوحًا فيما رأته من ثورة الجزائر ضد الحكم العسكري وثورة السودان ضد الحكم العسكري والأهم ثورة لبنان والعراق ضد الطائفية ووضوح المشهد في بقية الدول العربية.
في هذه المرحلة وفي مواجهة هذه الموجة الجديدة الجدية اتخذت (إسرائيل) موقفًا مؤيدًا لهذه الثورات لسبب بسيط، وهو أن كل بلد تخدم الثورة فيه بشكل غير مباشر أهداف (إسرائيل)، علما بأن هذا وهم كبير.
في لبنان مثلًا: تعادي (إسرائيل) حزب الله، وحزب الله جزء من التركيبة الطائفية في لبنان، والثورة في لبنان تطالب بتفكيك الطوائف وإقامة الدولة الحديثة بجيشها الوطني وبمؤسساتها المنتخبة انتخابًا ديمقراطيًّا حرًّا وليس على سبيل المحاصصة الطائفية، ولكن (إسرائيل) لا يسعدها أن تنجح هذه الثورات لأن النتائج التي تستهدفها الثورات ضد وجود (إسرائيل).
وقد سعدت (إسرائيل) كثيرًا بظهور شباب حزب الله وأمل أو مؤيديهم في مشهد حسب على أنه ضد الثوار، ولا شك أن (إسرائيل) تحاول أن توسع الشقة بين حزب الله وبين بقية الثوار الذين ينتمون بحكم التركيب إلى كل الطوائف، وتدرك (إسرائيل) أيضًا أن الثورة في لبنان سوف تصطدم بواقع مرير وهو تكتل الطوائف وزعمائها ضد الثورة ولذلك تحاول (إسرائيل) أن توقع بين زعماء الطوائف وبين عموم الشعب اللبناني في الشوارع، وتراهن على تمسُّك الطوائف بامتيازاتها والانهيار الاقتصادي الناجم عن ذلك وتمسُّك الطوائف بالفساد وإن كان حزب الله قد طوَّر موقفه عدة مرات حتى لا يفقد أنصاره.
وللأمانة يجب أن ننظر إلى حزب الله من جوانب متعددة، ولكن هذه النظرة قد تكون أكاديمية أكثر منها عملية، وذلك أن حزب الله نشأ خصيصًا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت ونشأ مرتبطًا بإيران فجمع أنصارًا له بصفته المقاومة على امتداد المنطقة العربية وفي نفس الوقت لقي معارضة التيارات الموالية لـ(إسرائيل) في الساحة اللبنانية والعربية، وقد استندت وضعية حزب الله المقاوم إلى شرعية عامة واكتسب سلاحه من هذه الشرعية، لكن بدأ ذلك يهتز بعد صدامه مع القوى اللبنانية منذ عدة سنوات ثم دخوله إلى سوريا لمساندة الحكومة السورية ضد المسلحين من كل الاتجاهات، ورغم سلامة موقف حزب الله من الناحية الإستراتيجية في سوريا إلا أن ذلك أضيف إلى عوامل تنال من صورته كحزب مقاوم.
أما الجانب الآخر من حزب الله فهو تجميع الشيعة وإظهارهم قوة اجتماعية جديدة في لبنان دون الاحتكاك بالطوائف الأخرى السنية والمسيحية، وأما الجانب الثالث فهو أن الحزب قوة سياسية تحمي لبنان ولكنها تشغل حيزًا بالغ الأهمية في تركيب السلطة في لبنان.
الجانب الرابع من حزب الله هو أن علاقته بإيران علاقة عضوية وهذا يشكل مظهر قوة وضعف له في نفس الوقت خصوصًا وأن (إسرائيل) تحسب حزب الله من الأذرع الهامة لإيران في أي مواجهة بين إيران و(إسرائيل) والولايات المتحدة ولذلك تحاول (إسرائيل) أن تتحرش دائمًا بحزب الله في سوريا ولبنان، وتقوم بهجمات على مراكز الشيعة في الضاحية الجنوبية في بيروت وكذلك الجنوب اللبناني، حتى بات حزب الله هو الهاجس الأكبر لـ(إسرائيل) بعد أن استأنست المنطقة وقضت على شكيمة جيوشها في كل الدول المحيطة بها باستثناء الجيش المصري الذى لا تأمن (إسرائيل) له مهما امتدت وشائج التنسيق والطمأنينة معه.
وقد عبَّر شارون في مذكراته عن هذه الحقيقة بقوله (إسرائيل) لا تخشى في المنطقة سوى هذا الجيش، ولذلك يفترض أنها تعمل على إضعافه وتهميشه والقضاء عليه، وتلك حقيقة لا بد أن تدركها القيادة العسكرية المصرية من الناحية الإستراتيجية مهما كانت الظروف التي تبدو للناظر مختلفة.
أما الثورة في العراق فإن (إسرائيل) تؤيدها على أساس أنها ضد الطائفية المسنودة من إيران وضد تغول إيران في العراق، وتبرز (إسرائيل) سقطات إيران اتجاه هذه الثورة، خاصة وأن إيران نفسها تواجه تململًا شعبيًّا ظاهرًا ولكن (إسرائيل) أيضًا تراهن على فشل الحراك العراقي في تحقيق أهدافه الإستراتيجية، وتستعين بالقوات الأمريكية في العراق على التحسب لأي نجاح لهذا الحراك رغم أنها تدين استخدام القوة ضد المتظاهرين؛ لأن (إسرائيل) عادة تتسم بأعلى درجات الانتهازية، وهذه طبيعتها التي لا تستطيع الإفلات منها.
أما الحراك في السودان والجزائر فتبدي (إسرائيل) حيادًا مع ميل إلى استحسان الحراك ولكن (إسرائيل) تخشى من الحراك السوداني والجزائري من أن يمتد إلى مصر التي أمنت تمامًا الوضع فيها، وهذا وهم كبير لأن المصريين يفرقون بين خلافهم مع الحاكم وبين خلافهم مع (إسرائيل)، فهم يجمعون على رفض (إسرائيل)، ولكنهم لا يجمعون بالضرورة على الخلاف مع الحاكم.
الخلاصة أن (إسرائيل) تحدد موقفها من التطورات العربية وفقًا لمصالحها وتتمنى أن تسود الفوضى والدمار في جميع الدول العربية، وتقف بالمرصاد لأي بادرة للإصلاح أو التطور الديمقراطي أو السياسي الإيجابي.