سعدت بأن قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل بالضفة الغربية في فلسطين ينظم لقاءات مع بعض الشخصيات المصرية والعربية للحوار يساهم فيه الضيف والطلبة والأساتذة. وكان موضوع اللقاء ساخنًا بالنسبة للفلسطينيين، وكان اللقاء يتسم بالحرية في السؤال والمصداقية والمسؤولية في الإجابة في حوار استمر أكثر من ساعة ونصف. وتولى د. بلال رئيس قسم العلوم السياسية إدارة الحوار بكفاءة واقتدار، ورأيت تعميمًا للفائدة أن ألخص ما دار في اللقاء، وأشكر منظمي اللقاء على إتاحة الفرصة لي للإطلال على فلسطين في هذه الظروف واختياري فاتحة للمبادرة وتقديم نبذة كاملة عني، وقد نشرت أكثر من مائة كتاب نصفها تقريبًا عن القضية الفلسطينية، أحدثها مأساة فلسطين من هرتزل إلى صفقة القرن، وصفقة القرن في ضوء القانون الدولي، الأساطير والخرافات في الثقافة السياسية العربية والإطار السياسى لقصة بني إسرائيل في القرآن الكريم وفي السلوك الإسرائيلي، وفصول في مزاعم الإرهاب الإسلامي وغيرها.
وملخص الأسئلة والإجابات تركز حول موقف مصر من القضية الفلسطينية وقد شرحت بالتفصيل هذا الموقف في الملاحظات الآتية:
الأولى: أن أمن مصر يبدأ من فلسطين جغرافيًّا وتاريخيًّا، وأن جميع الغزوات والهجمات جاءت إلى مصر من الشرق ولذلك كانت فلسطين هي مسرح بطولات الجيش المصري، ولم تتغير رؤية مصر إلى فلسطين ولكن تغيرت وسائل خدمة هذا المفهوم. فعندما هددت العصابات الصهيونية فلسطين وكانت بريطانيا صاحبة المشروع الصهيوني تحتل مصر لم يمنع مصر من بلورة موقفها بإبلاغ مجلس الأمن بأن قيام (إسرائيل) خطر على مصر وأن مصر بدأت حالة الحرب معها وما ترتبه هذه الحالة من آثار وأهمها منع مرور السفن الإسرائيلية والسفن القاصدة لـ(إسرائيل) أو الخارجة منها في قناة السويس على أساس أن هذه السفن تحمل مهربات حربية وتنتهك قواعد الحياد في الحرب، وأنشأت مصر لذلك محكمة الغنائم بالإسكندرية لتفصل في المنازعات عند تطبيق الحظر. كما أرسلت مصر وحدات من جيشها لمنع استقرار العصابات في فلسطين ومساعدة أهل فلسطين في الدفاع عن أرضهم وقد أبلى الجيش بلاءً حسنًا لولا تعقيدات الموقف واستهدافه بمؤامرة دولية أسفرت عن حصاره في مدينة الفلوجة، وكانت تلك ورقة ضغط خطيرة اضطرت مصر في فبراير 1949 إلى توقيع اتفاقية الهدنة في رودس مع هذه العصابات التي شكلت ما سمي بحكومة (إسرائيل) المؤقتة، التي أخذت تتوسع خارج قرار التقسيم الذي عارضته مصر والدول العربية القليلة الأعضاء حينذاك في الأمم المتحدة، وقد خطب النقراشي باشا رئيس الوزراء في مجلس الأمن حيث كانت مصر عضوًا فيه، تعقيبًا على قرار التقسيم، بأن (إسرائيل) سرطان يريد التهام مصر وتمزيق الأمة العربية.
ورغم كامب ديفيد ومعاهدة السلام فإن (إسرائيل) لا تزال تعد مصر عدوًّا، ويشعر بذلك الشعب المصري وتدرك حكومته أبعاد هذا الموقف.
الثانية: أن موقف مصر المبدئي تحرك عبر ثلاثة محاور منذ البداية الأول: (إسرائيل) وقد تغير موقف مصر من حالة العداء والتربص لغدرها إلى الاعتراف بها واختلاف مراحل التقارب معها، وردًّا على سؤال حول المقارنة بين مواقف الرؤساء الثلاثة الأخيرين من (إسرائيل) قررت أن الجميع التزم الخط العام مع اختلاف التركيز على الأضلاع الثلاثة.
المحور الثاني هو المقاومة والثالث هو السلطة الفلسطينية وبخلاف الموقف المبدئي من عموم القضية فقد أنشأت مصر المقاومة عام 1965، وبعد 1967 نشطت المقاومة من لبنان والأردن ومات عبد الناصر عام 1970 وهو يدافع عن المقاومة ويرتب أوضاعها دون افتئات على الدول العربية التي تعمل منها ضد (إسرائيل).
ثم نشأت المقاومة الإسلامية بحماس 1987 ثم حدث شقاق بين فتح وحماس وكانت مصر رسميًّا تتعامل مع السلطة و(إسرائيل) ولكنها لم تعادِ المقاومة، وبعد موجات العدوان الإسرائيلي على غزة كانت مصر دائمًا تتوسط لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين مقابل المأسورين من (إسرائيل) والسعي لوقف العدوان والتوصل إلى هدنة. حدث ذلك عام 2009-2012-2014.
وأشرت إلى ميل مبارك أكثر لـ(إسرائيل) ولكنه التزم أساسيات موقف الدولة المصرية، وهو ما التزمه تمامًا الرئيس السيسى، ولم يشذ عن ذلك د. محمد مرسي مع فارق واحد هو العداء الديني بين الإخوان و(إسرائيل) ودور كتائب الإخوان في حرب فلسطين 1948 وكراهية (إسرائيل) الطبيعي للتيارات الإسلامية والقومية على السواء، فكان الإخوان أشد عداءً لـ(إسرائيل) من الدولة المصرية وأكثر ميلًا للمقاومة بحكم أن حماس فرع من الإخوان ولم يلتزموا التحفظ الذي التزمته الدولة المصرية مع المقاومة في ضوء اتفاق السلام.
أما مصر السيسي التي شهدت حملة سيف القدس فقد تحركت في عدة جبهات بشكل مباشر:
الجبهة الأولى: السعي لوقف متبادل ومتزامن للعمليات العسكرية، ومحاولة تثبيت هذا الوقف دون اتفاق بل والسعي إلى إبرام هدنة طويلة الأجل حتى يتفرغ الجميع لمفاوضات مثمرة تحقق الموقف العربي والدولي، وهو إقامة دولة فلسطينية عاصمتها شرقي القدس وعودة اللاجئين وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة.
الجبهة الثانية: هي العمل على تبادل الأسرى وهو موقف مصري تقليدي ثم مراعاة للجانب الإنساني للأسرى، بالإضافة إلى تلهف (إسرائيل) إلى إطلاق سراح المأسورين من أبنائها.
الجبهة الثالثة: هي إعادة إعمار غزة والتبرع بمئات الدولارات لهذه المهمة، وما دامت مصر ستساهم لأول مرة في إعمار غزة مثلما قدمت الدعم الإنساني لغزة خلال العدوان عليها ووقفت مصر بصلابة في هذا الدعم، فإن مصر حريصة على عدم تجدد القتال حرصًا على حالة الإعمار ولذلك تسعى مصر إلى التهدئة كلما جد جديد.
الجبهة الرابعة: هي إجراء المصالحة بين الفرقاء في فلسطين.
الجبهة الخامسة: السعي إلى إحياء منظمة التحرير التي تضم الجميع وتتعامل مع (إسرائيل)، بعد أن تم اختزالها في السلطة ورئيسها.
ودارت تساؤلات حول مدى استقلال القرار المصري أم أنه غطاء لمواقف سعودية وإماراتية، فقررت أن مصر موقفها مبدئي ولكن بالتوافق مع الاهتمام الأمريكي والرغبات الإقليمية، وأن افتراض أن دور مصر مجرد غطاء يظلم مصر كثيرًا، وأشرت إلى التقارير المتداولة خلال العدوان عن ميل الإمارات لـ(إسرائيل) وهذا بعيد تمامًا عن المصالح المصرية وموقف مصر.
الملاحظة الثالثة: ركزت على ضرورة استعادة اللحمة العربية حاضنًا للقضية الفلسطينية وتمنيت أن يكون الاجتماع الوزاري التشاوري في قطر مقدمة لذلك، ولاستعادة التضامن العربي.
الملاحظة الرابعة: أكدت ضرورة اعتراف السلطة بالمقاومة والدخول في مفاوضات مع (إسرائيل) على أسس جديدة واعتبار المقاومة أهم ورقة فلسطينية خاصة وأنها الدرع الواقي للقدس ولكل فلسطين وضرورة إجراء الانتخابات الفلسطينية بالتفاهم مع مصر وقطر وبلورة موقف فلسطيني واحد وضرورة هجر النظرة الضيقة للخلاف بين الصف الفلسطيني والارتفاع إلى مستوى التحدي والمستوى الذي فاجأ به الشعب الجميع انطلاقا من أن العرق الفلسطيني نفسه معرض للإبادة.
الملاحظة الخامسة: هو تقويم دور إيران في دعم المقاومة الذي ارتبط تاريخيًّا بقيام الثورة 1979 ثم إنشاء حزب الله ودوره ضد (إسرائيل). فقلت من الطبيعي أن تدعم إيران كل ما ينال من (إسرائيل)، وقد حلت إيران محل العرب في دعم المقاومة بعد التراجع العربي. وأحلتهم إلى تحليلي لهذه المسألة في مقال مفصل منشور حول أثر الصراع الأمريكى-الإيرانى على القضية الفلسطينية، وأشرت إلى أن تسوية القضية بشكل عادل تفقد المقاومة أهميتها والدعم المقدم لها بعد إقامة الدولة الفلسطينية وعندها ستدخل إيران في تحالف معها ليس ضد (إسرائيل) وإنما لتعزيز وجودها، وربما يتم اتفاق إيراني عربي في ذلك.