20 يناير/ كانون الثاني 2020م، مرت الساعة العاشرة صباحًا أو الثانية ظهرًا، ولم يتصل الأسير ماهر سعسع الذي اعتاد أبناؤه سماع صوته في هذين الوقتين، لكن لم تُلقِ ابنته رانيا بالًا كثيرًا لذلك، وذهبت لزيارة بيت خالتها، وأكثر ما ذهب بها اعتقادها أنه قد يكون متعبًا، أو مريضًا.
بعد الثالثة عصرًا، بدأت المخاوف والاحتمالات تتساقط حولها، لكن حاولت تجاهلها قائلة في نفسها: "يمكن عنده اتصل، أو سلطات السجون منعته". ثم تواردت الأنباء بأنه أُدخل للمشفى، تبعها لحظات أخرى من الترقب والانتظار، فجّرها دخول شقيقها البيت بصرخة دوّت في أرجاء المنزل وابتلعتها جدرانه: "بابا مات.. بابا مات!"، حاولت تكذيبه: "لا؛ هسا برن" تحاول التعلق بقشة أمل إلى أن تأكد خبر الاستشهاد.
وقفت رانيا –بعدما طُلِب منهم الاستعداد لاستقبال الجثمان- تنتظر والدها؛ نبضات قلبها تخفق بشوق بدأ يُمزِّق عباءة الانتظار لهذه اللحظة التي تمنت أن تكون مراسمها مختلفة، تحاول ترميم جراحها من جديد، والاستعانة بصبر يحفظ تماسكها واحتراق وجع يضرم نارًا مستعرةً بداخلها، تريد منع دموعها من التساقط، لعدم تشكل ستار ماء سيحجب رؤية والدها، تريد طبع صورته الأخيرة وحفرها في مخيلتها دون أي غبش أو دموع، هكذا كانت تظن.
توتر قلبها أصبح على هيئة رجل ترتجف أطرافه، اقتربت أصوات المشيعين من باب المنزل يرددون: "لا إله إلا الله.. والشهيد حبيب الله"، تتعالى الأصوات أكثر كلما اقتربت: "زفوا الشهيد بدمه.. ألف تحية لأمه"، ينشدون لأمه التي انتظرت ابنها الوحيد طويلًا إلى الضفة الأخرى من الأمل إلى أن توفيت العام الماضي، رحلت تجر حسرتها وبثها، تمني النفس أن تكحل عينيها برؤيته مرة واحدة خارج الأسر.
رحلت روح والدها الأسير الشهيد ماهر ذيب سعسع (45 عاما) من محافظة قلقيلية شمال الضفة الغربية، الذي اعتقله الاحتلال عام 2006م وحكم بالسجن 25 عامًا، أمضى منها خمسة عشر عامًا.
دخول مختلف
"دخل أبي أخيرًا عتبات البيت الذي غادره قبل خمسة عشر عامًا، يومها لم يزِد عمري على سبع سنوات، الموت وحده الذي استطاع تحرير روحه وجسده من أغلال السجون، تحرر قبل عشر سنوات من انتهاء محكوميته، نظرتُ إلى جثته الممددة أمامي كسكون الملائكة وهدوء المسنين بلا روح، يشع وجهه نورًا كسماء صافية في يوم مشمس معتدل، ألمس وجهه بيدي أحاول حفظ تفاصيله".
تمنت رانيا لو كان المشهد السابق مختلفًا، بأن يدخل والدها على قدميه وتعانقه عناقًا طويلًا تسمع نبضات قلبه، وتخبره عن حجم شوقها له، لتخبره "كم كانت طويلة الأعوام الخمسة عشر التي مرت، وكم كانت قاسية على أبنائه، وكم وكم مما اختزنته من كلمات وجمل كانت ستبوح بها له.
"عانى أبي أمراضًا متعددة نتيجة سياسة الإهمال الطبي، كالقلب وارتفاع ضغط الدم، في مرات عديدة نُقل للمشفى، ولكن للأسف كان الاحتلال يعيده باليوم نفسه دون إجراء تدخل طبي، فتراكمت الأمراض عليه".
لم تجف دمعات رانيا التي تساقطت على الجانب الآخر من الهاتف، في حين تنصت صحيفة "فلسطين" لباقي التفاصيل: "علمنا أن ليلة استشهاده، طلب من السجانين أكياس ثلج بعد أن تضاعفت حالته، في إثر حقنه بلقاح مضاد لفيروس كورونا، وفي صباح اليوم التالي ارتفعت حرارته ووصلت إلى 40 درجة مئوية".
"استغاث أبي بالسجانين، لكن أعطوه حبتي أكامول، وعاد إلى غرفته واستشهد ولم نعلم بأي تفاصيل أخرى، وننتظر تقرير الطب الشرعي".. ينقذف صوتها كرصاصة غاضبة تنطلق من بندقية.
نقلت رانيا أسئلتنا لرفيق له داخل الزنزانة، وعادت بعد عدة أيام تحمل شهادته، إذ يقول: "بعد أخذ لقاح كورونا، كانت يده متعبة فتركته ليرتاح وعدت لزنزانتي. في الصباح، ذهبتُ الساعة السادسة والنصف صباحا فوجدته متعبا جدا، ترتفع حرارته تدريجيا، فنادى ماهر عليَّ مُرحِّبًا: "فوت اقعد على التخت (سرير السجن)"، فقمنا بغلي شاي احتسيناه معًا".
ما زال يكمل التفاصيل: "عدت لزنزانتي ورجعت بعد ساعة لأطمئن عليه، فوجدت الحرارة مرتفعة وبدأ جسمه يرتجف، فذهب لعيادة السجن وهناك أعطوه حبتي أكامول وعاد للزنزانة.
- غطيني سقعان كتير..
- أضل عندك؟
- لا، لا خلص روح على غرفتك.. بترجع كمان ساعتين.
وقال: "كان ما سبق آخر حوار بيننا، وذهبت للعمل في السجن وسمعت بالخبر المفاجئ ولم أعرف كيف توفي".
إفادة الطبيب
مارس الاحتلال إهمالا طبيا متعمدا مع الأسير سعسع بعدما أجرى عملية قسطرة قلبية وزرع شبكة داخلية بالقلب، وتناول أدوية مختلفة يجهلها نادي الأسير الفلسطيني حسب إفادة مديره في قلقيلية لافي نصورة.
ويقول نصورة لصحيفة "فلسطين": "قد يكون تعارض اللقاح مع الأدوية الأمر الذي أدى للاستشهاد، لكننا ننتظر نتيجة التشريح من معهد أبو كبير وقد تستغرق عدة شهور، علما أن طبيبا فلسطينيا شارك في عملية التشريح".
ينقل عن إفادة الطبيب الفلسطيني الأولية، أنه اكتشف وجود مشكلة كبيرة في الشرايين، وأن الشريان الرئيس في القلب مسدود وأن سبب الوفاة ناتج عن أمراض القلب؛ ما يؤكد أن عملية القسطرة لم تتم بالطريقة الصحيحة، حيث أظهرت المعاينة الأولية في التشريح وجود انسداد بالشرايين، أي إنه لم يُعرض على طبيب ولم تُشخَّص حالته قبل إعطائه اللقاح؛ ما أدى لاستشهاده.
هناك حلقة مفقودة تتعلق بطبيعة التدخل العلاجي الطبي الذي تم مع الأسير الشهيد ماهر سعسع من قبل الاحتلال، ما يحتاج إلى تحقيق من قبل الجهات المختصة بشأن كيفية تعاطي الاحتلال معه، وإن كان تعمد التخلص منه.