فلسطين أون لاين

صاحب صوت التصق بالذاكرة 20 سنة

حذيفة الكحلوت.. حين نزل اللثام وبقيت أسطورة "أبو عبيدة"

...
الشهيد حذيفة الكحلوت "أبو عبيدة"
غزة/ يحيى اليعقوبي

كان صاحب صوت التصق بذاكرة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم على مدار عشرين سنة، في كل مرة كان يطل فيها على الشاشات مخاطبا شعبه وأمته والعالم، ببزته العسكرية وكوفيته الحمراء، يتحدى الاحتلال في خطابات شكلت كابوسا لـ (إسرائيل) على مدار عقدين، إذ كان الظهور كلمة الفصل في مواجهات حاسمة ومواقف محددة خلال معارك المقاومة مع الاحتلال، أو بمنزلة إنذار للمجتمع الإسرائيلي بكامله.

كلما كان يُعلن عن خطاب مرتقب للناطق العسكري باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" الذي كشفت القسام عن شخصيته الحقيقية بعد إعلان استشهاده أمس، وهو حذيفة سمير الكحلوت (40 عاما) ويكنى أبا "إبراهيم"، سواء خلال حرب الإبادة أو فيما سبقتها من حروب، كانت تحظى باهتمام "الصديق والعدو"، فكان يحمل البشريات لأبناء شعبه وهو يروي ملاحم المقاومين الأسطورية، فكل كلمة كانت تخرج منه كانت تبث الذعر في نفوس الإسرائيليين وتبرد قلوب أبناء شعبه وتصبرهم بما كان يعلنه من خسائر يتكبدها الاحتلال أو عن رشقات المقاومة الصاروخية وبطولاتها.

ارتبط الشعب الفلسطيني بصاحب الصوت، وبكلماته، وحضوره، وبإطلالته ليمر خبر رحيله قاسيا على قلوب أبناء شعبه وأمته وأحرار العالم وهم يبكون رحيله، ومن صور ما تركه أبو عبيدة من إلهام بخلاف ما حاولت فعله ماكنة الدعاية الإسرائيلية، هو حجم التفاعل مع رحيله فمثلا، نشر 13 مليون منشور على تطبيق "تيك توك" والذي لم يروا فيه "إرهابيا" بل رأوا فيه النسخة الحقيقة من أبطالهم الخياليين.

فمثل أبو عبيدة أيقونة المقاومة وصوتها، وسيف خطابها الإعلامي، وصاحب الصوت الذي تحدت به القسام الاحتلال، ومرآة المقاومة والشعب الفلسطيني أمام العالم، تخرج كلماته من قلب ثائر، فكان وجه غزة الغاضب وهي ترفض الركوع لأعدائها.

ولعل المفارقة أن خطابه الأخير سبق وقف الحرب بفترة وجيزة، وكأن رسالته وصلت والمهمة أديت، فلم يبق بعده ما يقال لتحريك ضمائر العالم، ولا سيما قادة الأمة العربية والإسلامية ونخبها وعلمائها التي رحل وهو يعاتبهم بألم موجع، حين قال: "نحن خصومكم أمام الله".

لم تتغير نبرة الخطاب ولا مستوى التحدي من بداية ظهوره حتى نهايته، ففي خطاب ببداية ظهوره قبل عشرين عاما قال عن اجتياح الاحتلال لمخيم جباليا: "سنستمر بالمقاومة حتى ولو لم يبق إلا جندي واحد من كتائب القسام. سندافع عن المخيم دفاعا مستميتا ولا يمكن أن نتخلى عن منهج المقاومة"، ليظل النهج قائمًا ومعلنًا بصوته إذ قال في آخر خطاباته خلال الإبادة: "إنا الأطول نفسًا، والأكثر إصرارًا على تحقيق أهدافنا، وليعلم العدو أن ما فقدناه من عتاد وذخائر قد أعدنا ترميمه وتعويضه".

في آخر خطابه والذي كان خطاب الوداع قال: "ختاما يا أبناء شعبنا الصابر العظيم، يا نبع الثورة ومصنع الرجال، يما من تودعون في كل يوم قافلة نورانية من الشهداء يا أخوة موسى كليم الله الذي آذاه ألد أعداء الله فلم يبح إلا "بكلا إن معي ربي سيهدين" يا أحفاد يوسف الصديق إذ خذله أخوته وألقوه في غيابة الجب فجاءه النصر والتمكين، يا أحباب محمد الذي حوصر بالشعب وطورد للغار وألجئ لأحد فجاءه الغوث من ربه "فسيكفيكهم الله" يا أخوة آل ياسر، إذ عُذبوا في الله فبشروا "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". إن ثباتكم رغم الخذلان، وصبركم وعطاءكم وتحديكم للقهر والحرمان هو أشد ما يغيظ أعدائكم وأن لهذا الليل آخر لا محالة، إن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وإن "مع العسر يسرا".

كان الصوت ومضمون الخطاب والأداء والاستشهاد بآية قرآنية تنسجم خلال حديثه بشكل متناسق ليخرج لوحة متكاملة بين قوة حضور الشخصية والصوت واللغة والمضمون، فكان أمرا لافتا وفريدا وبات مدرسة في الخطاب، ويرجع ذلك إلى سنوات عمره التي بدأت في المساجد وحفظ القرآن كاملا، والتعليم وامتلاكه ثقافة دينية ولغوية واسعة.

ولد الكحلوت في السعودية عام 1985 وعاد لغزة، ليترعرع على موائد القرآن في مسجد "العودة" بمخيم جباليا، وتخرج من كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية – قسم العقيدة وقد أتم رسالة الماجستير سنة 2013 بعنوان "الأرض المقدسة بين اليهودية والنصرانية والإسلامية" في بحث امتد على نحو 650 صفحة، لم يقتصر على المقارنة العقدية بين الأديان، بل تناول الاستراتيجيات والخطط التي تسعى للسيطرة على الأرض المقدسة ونزعها.

موهبة تشكلت بالصغر

تقول شقيقته سندس: "حذيفة كان منذ صغره فتى ذكيا متفوقا هادئًا لا تكاد تسمع له صوتا لكنه إذا تكلم أقنع وأبهر وجذب سامعيه، كان رقيق القلب حنونًا بارًا بوالديه وأخوته لا أتذكر في حياتي كلها معه أنه أزعجني بكلمة أو أزعج أخواني. كان كتوما جدًا تكاد لا تعرف عنه شيئا وكأن الله هيأه لهذه المكان وهذا العمل".

وأضافت لـ "فلسطين أون لاين": "منذ صغره كان جل اهتمامه في دائرة المسجد والدراسة ثم سلك طريق الجهاد في الجناح العسكري لحماس، وكان حضوره بين عائلته قليلا وسريعًا بحكم خصوصية عمله وسرية تواجده في أي مكان لكن كان حضوره مميزًا خفيف الظل جميل المبسم يمازحنا ويحدثنا بروح مرحة بعيدة عن شخصيته كأبي عبيدة الشخصية الصارمة".

لم تكن عائلته تعلم عن مصيره شيئًا إلا من خلال ظهوره الإعلامي، إذ تؤكد شقيقته أنها التقت به مرة واحدة خلال الحرب وحدث اللقاء في فبراير/ شباط 2025 خلال فترة الهدنة الثانية، وتقول: "لقائي معه لم يتجاوز الخمس دقائق، عانقته وسلمت عليه واطمأننت أنه والعائلة بخير ثم افترقنا سريعًا، وقال لي: "دير بالك على حالك يا أختي" ثم مازح زوجي قائلا: "خلي بالك من سندس".

وتتابع: "كنت أنتظر ظهوره الإعلامي مثلي مثل باقي الأمة، وما كنت أطمئن على حاله إن كان شهيدا أو من الأحياء إلا حين ظهوره في الخطابات".

عاش أبو عبيدة في ترابط عائلي وكان يشاركهم لقاءاتهم ورحلاتهم، تستذكر شقيقته "كنا نخرج معا في رحلات جماعية سنوية ونقضي أوقاتا جميلة ونخصص له فقرة يتحدث فيها معنا، عن مواقف من حياته العملية بطريقة مرحة لطيفة. والآن فقدنا من العائلة 16 فردًا وأصبحت اللقاءات العائلية يتيمة باهتة لكن عزاؤنا أن لنا لقاء أبدي في الجنة".

قبل عشرين سنة لم يتقدم الملثم ليكون الناطق بل وقع الاختيار عليه بعد اكتشاف موهبته، تؤكد أنه "عندما جرى اختياره لهذه المهمة والمسؤولية العظيمة كان لا يرغب بها، لكن كان الأمر بتكليف من القيادة العليا وما كان له إلا أن طاع الأوامر".

شكلت شخصية الملثم كابوسًا للاحتلال على مدار عقدين من الزمن، وفي صراع الرواية مع الاحتلال حظي مضمون خطابه بمصداقية لدى المجتمع الإسرائيلي وكانوا يتعاملون معه بجدية، فكانت القسام تعلن من خلاله خلال حرب 2014 فرض حظر تجوال في ملاعب رياضية، أو منع التجمع في الساحات العامة، وإنذار الاحتلال بسحب مسيرة الأعلام عام 2021 والتي اندلعت خلالها معركة "سيف القدس".

يقول المختص بالشأن الإسرائيلي أمين الحاج: إن "شخصية الملثم كسرت منطق السيطرة الأمنية، فغياب الوجه والاسم والنبرة الفردية منع الاحتلال من تحويله إلى هدف نهائي، بالتالي كل ظهور كان يؤكد الاستمرارية".

وأضاف الحاج لـ "فلسطين أون لاين": "هذا خلق شعورا مزمنا بالعجز بالتالي هذا الكابوس لم يكن في الخطاب ذاته بل في ثباته واستمراريته بنفس النبرة والانضباط، وحتى الإيقاع وبتأثر واهتمام متصاعد دائما".

أكثر من شخصية إعلامية

وكان أبو عبيدة في الوعي الإسرائيلي أكثر من شخصية إعلامية عادية أو مجرد ناطق إعلامي، فظهوره غالبا ما ارتبط بحدث أو تصعيد كبير، لذلك تعامل الإعلام العبري معه بصوفه إنذارا وتصريحاته كانت تترجم وتناقش لأن تجاهلها قد يكون مكلفًا، وهذا مثل تهديدًا رمزيًا فرض حضوره خارج سيطرة الاحتلال وهذا بحد ذاته شكل مصدر قلق دائم. وفق الحاج

وتابع: "لم يكن أبو عبيدة يسوق رواية معقدة ولا خطابا تبريريا، لغته مباشرة وقصيرة وحاسمة، خطابه كان أقرب إلى واقع لغوي بسيط ومتماسك لكنه بليغ ومؤثر".

وخلال المعركة تفوق أبو عبيدة، وفق المختص بالشأن العسكري رامي أبو زبيدة، على الماكنة الإعلامية الإسرائيلية التي تمتلك ميزانيات ضخمة وتدعمها قنوات إقليمية، وذلك من خلال عدة تكتيكات أولها التحكم بالإيقاع الزمني، واختيار توقيتات حرجة مثل ليالي السبت والتاسعة مساء التي قصفت فيها القسام (تل أبيب) عام 2012 وتحديد ساعة القصف مسبقًا وتحدي الاحتلال باعتراض صواريخ المقاومة.

وأكد أبو زبيدة لـ "فلسطين أون لاين" أن هذه الرسائل كانت تربك الحسابات الإسرائيلية وتجبر وسائل إعلام عبرية على قطع برامجها لتحليل كلمات الملثم، ما يعني أنه كان يحدد أجندة النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي، كما أدار ملف الأسرى نفسيا واستخدمه كخنجر في خاصرة الجبهة الداخلية الإسرائيلية من خلال نشر أسماء المفرج عنهم، والحديث عن مصير القتلى منهم.

واستطاع أبو عبيدة، وفق أبو زبيدة، تحريك الشارع الإسرائيلي ضد حكومته وهذا ما عجزت عنه الدبلوماسية، كما أن وراثة الفكرة ضربة للحرب النفسية الإسرائيلية الذي حاول تسويق اغتيال أبو عبيدة كصورة نصر، لكن ظهور الملثم بنفس الهيئة والنبرة يفرغ الاغتيال من قيمته المعنوية ويقول للجمهور: أنتم تقتلون الأشخاص لكنكم لا تقتلون الفكرة، فكان أبو عبيدة السلاح الذي لم يستطيع الاحتلال اعتراضه سواء بالسلاح أو القبة الحديدة لأنه خاطب القلوب والعقول.

وأرى أن شخصية أبو عبيدة خلال المعركة لم تكن مجرد ناطق رسمي باسم المقاومة بل تحول لمؤسسة وصاحب السردية ورمزية عابرة للحدود، وهو جسد المقاتل المجهول، واللثام الأحمر لم يكن للاختفاء الأمني فقط بل كان وسيلة لتحويل الشخص أبو عبيدة لفكرة وبما أن الأفكار لا تموت، مثل أبو عبيدة روح المقاومة التي لا ترتبط بوجه وشخصية فرد بذاته.

وقال: "مثل الملثم أيقونة الرفض والمظلومية المنتصرة ومثل الجسر الواصل بين آلام الناس والفعل العسكري، فلم يتحدث بلغة العسكر الجافة فقط بل بلغة دينية ووجدانية بالتشجيع على الرباط والثبات".

المصدر / فلسطين أون لاين