يواصل الجنود الإسرائيليون في غلاف غزة حمل المطارق وأنابيب المياه الثقيلة؛ لضرب وإطفاء النيران المشتعلة التي تحملها بالونات غزة، في حين تردّ قيادة الاحتلال السياسية والأمنية بإطلاق التهديدات وابتكار مصطلحات الفتوّة على سمع من اعتادوا على الصخب.
وفي الوقت الذي لا تملك فيه المقاومة إلا خيار الوقوف بإصرار خلف مطالبها، وصون التفاهمات التي توصّلت لها في 2018، وعدم الالتفات إلى الوراء في الطريق المؤدية إلى كسر الحصار، فإن الاحتلال يقف أمام خيارات زاد تعقيدها هذا الإصرار. ويمكن إجمالها في الآتي:
أولًا: الرضوخ لمطالب المقاومة والالتزام بتنفيذ بنود التفاهمات، وهذا الخيار على ضرورته، بل حتميته في تقديرنا، ليس سهلًا في حسابات السياسيين الإسرائيليين، لأنه سيكون ورقة ابتزاز داخلية، ومكسبًا غير مباشر للمقاومة.
ثانيًا: اتباع سياسة "عض الأصابع" وتجاهل مطالب المقاومة، مع محاولة فرض معادلة اشتباك جديدة تساوي البالون بالصاروخ، واستغلال هذا النوع من الاشتباك غير المتكافئ في قضم المقدرات العسكرية في غزة، عبر الاستهداف المتكرر. وقد حاول جيش الاحتلال تطبيق ذلك لامتصاص سخط مستوطني الغلاف وتخفيف الضغط عن قيادته، وإزالة الاتهامات بسقوط الردع، لكن هذا الخيار فشل بوعي المقاومة وفرض أسلوبها الدفاعي: "القصف بالقصف".
ثالثًا: الردّ بقسوة على أدوات المقاومة الشعبية في غزة، وفرض حدود عازلة بالنار، وما يترتب على ذلك من جولة تصعيد محتملة، لن تغيّر نتائجها من مواقف الطرفين، وهذا الخيار وارد جدًا ويحمل خطورة وخشية من إمكانية الانزلاق إلى مواجهة كبيرة.
رابعًا: تنفيذ الاحتلال تهديداته وإعادة سياسة الاغتيالات، التي تعني قرارا بخوض مواجهة عسكرية واسعة، والعودة بالأمور إلى نقطة الصفر، لكن هذا الخيار ليس في صالحه للأسباب الرئيسة الآتية:
- عدم رغبة نتنياهو في التشويش على الإنجاز والاختراق اللذين حققهما في ملف التطبيع، الذي يعتبر بالنسبة له ملفا مركزيا واستراتيجيا في سياساته الخارجية، إلى جانب ملفي إيران والانقسام الفلسطيني، لذلك تبقى الخشية من أن تقود الحرب إلى ردّات أو نتائج عكسية للتطبيع.
- عدم الاستقرار الداخلي في ضوء الأزمة الاقتصادية وكارثة كورونا التي تضرب الاحتلال بقسوة حتى تجاوز عدد الإصابات لديهم حاجز الـ 100 ألف إصابة، إضافة إلى ازدياد مظاهر عدم التوافق بين نتنياهو وغانتس، إلى درجة بدأ الحديث معها عن انتخابات رابعة.
- سينظر الجمهور الإسرائيلي لأي معركة واسعة مع غزة على أنها هروب من نتنياهو، في ظل اشتداد وتواصل الضغط والتظاهرات المطالبة باستقالته.
- مدى قدرة الاحتلال وجبهته الداخلية على تحمل ردّ المقاومة وما ينتج عنه من أضرار مادية وبشرية، في ظل تقديرات أمنية لديه بأن أي معركة مقبلة مع غزة قد يكون فيها الردّ "خارج الحسابات".
وهو النقص الذي كشف عنه تقرير "مراقب الدولة" في الكيان، الذي نشر هذا الشهر، وأظهر أن حوالي ثلث الإسرائيليين سيبقون دون حماية جوهرية من الصواريخ حال اندلاع حرب شاملة على الكيان، وأن عدداً قليلًا فقط من المنشآت الحيوية تتوفر فيها الحماية، في حين تبين أن وزارة الجيش لم تعمل على حماية البنى التحتية الحيوية، ولا تمتلك حتى خطة عمل قابلة للتنفيذ حال الحاجة، ولم تستعد لسيناريوهات حربية بهذا الخصوص.
- اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل، أي بعد نحو شهرين، والتي تهم نتائجها الاحتلال وترتبط به أساسًا؛ لأن خططه المتصاعدة والمتسارعة ضد الأرض والقضية الفلسطينيتين مبنية على ولاية جديدة للرئيس ترامب.
من ذلك نستنتج أن ضغط المقاومة يأتي في التوقيت الصحيح والأنسب، والذي تتعاظم فيه الحاجة الإسرائيلية إلى استمرار الهدوء على جبهة غزة، ليكون الاحتلال ملزمًا بخيار الانحناء لهذا الوقت.