فلسطين أون لاين

الشيخ الياسين.. قلب اتسع للوطن واحتضن الجميع

...
غزة - يحيى اليعقوبي

منذ نعومة أظفاره كان ذكيًا وحكيمًا، أسست تلك السمات شخصية مختلفة عن الشخصيات الأخرى لها وزنها وحضورها، ولد الشهيد الشيخ أحمد ياسين عام 1936، وعاش يتيمًا، توفي والده حينما كان يبلغ من العمر ست سنوات، وتميز بين أقرانه بذكائه وتفوقه وذاكرته القوية، وكان لذلك أثر في تحديد المسار الذي رسمه لنفسه.

وظلت والدته بجانبه، فكان يبرها ويحترمها ويدللها، تحب أن تكون دومًا بجانبه ولا تترك مجالًا للبعد عنه وظلّا على ذلك إلى أن كبرا معا.

وفي فترة الخمسينيات من القرن الماضي كان الياسين بمقتبل العمر، تعرض آنذاك لحادثة أثناء ممارسته الرياضة، فأصيب من خلالها بأشبه بشلل رباعي، فكان يمسك القلم بأطراف أصابعه بصعوبة كبيرة، كذلك المشي على أطراف أصابع قدمه بصعوبة أيضا، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة دربه ومواصلة نشاطه وبروز شخصيته، نبت من أسرة محافظة، وكان على صعيده الشخصي محافظا أيضا.

والشيخ أحمد ياسين معروف أن له حضورا كبيرا على المستوى العائلي وعلى مستوى منطقة سكنه، وكذلك على المستوى المحلي والعربي والإسلامي والدولي، وصل إلى هذه المكانة من خلال الجهود التي بذلها خدمة لدينه وعقيدته ووطنه.

يقول الدكتور نسيم ياسين وهو ابن أخ الشيخ أحمد ياسين في حديثه مع صحيفة "فلسطين" بأن الدعوة إلى الله كانت محط اهتمام الياسين حينما كان عمره 15 عاما، وانتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تعد "الدعوة" أبرز سماتها.

فنهل الياسين من الكتب الإسلامية، وخاصة تفسير القرآن، وقرأ كتب الإمام حسن البنا، وسيد قطب وكتب جماعة الإخوان المسلمين، ولأنه كان متميزا تميز كذلك بدعوته.

قصة مع الوظيفة

ففي عام 1959م حصل الياسين على شهاد الثانوية العامة بترتيب الخامس على مستوى قطاع غزة وشمال سيناء في الفرع الأدبي، ما دلل على قدرته على الفهم والإدراك، رغم الصعوبات والضائقة المالية التي عاشتها عائلته لأنهم حديثو العهد من ناحية التهجير قسرًا من البلدات والمدن المحتلة عام 1948م من قبل العصابات الصهيونية.

فتقدم الياسين أحد الخمسة الأوائل في الثانوية العامة، لوظيفة مدرس بمدرسة الكرمل الابتدائية التابعة لإدارة غزة بالحكومة المصرية آنذاك، لكن لجنة المقابلات التي ميولها يسارية وتعرف تحركات الشاب الذي يبلغ من العمر 24 عامًا الدعوية، رفضت توظيفه رغم ترتيبه من الأوائل، وبررت ذلك أنه "أعرج"، وكتبت أمام اسمه "أحمد إسماعيل ياسين (أعرج)".

أرسلت اللجنة إلى الحاكم المصري لغزة كتابا ليعتمد المقبولين، فقرأ الحاكم أمام اسم الشيخ ياسين كلمة "أعرج"، استفزته الكلمة أمام من حوله: "أعرج يعني يموت من الجوع وما يشتغلش"، فشطب كلمة "أعرج" وكتب يوظف فورًا، ويقال إن الحاكم كان لديه ابن أعرج وأثر فيه الأمر من الجانب العاطفي.

"كان للوظيفة أثر كبير في الشيخ، فكانت المدارس بعيدة عن الدين، ولا يوجد مناهج تهتم بهذا الجانب، فكان يصطحب الأطفال في أوقات الحصص التي كان يدرس فيها الدين للمتوضأ ليعلمهم الوضوء، ثم حاول أن يبني مصلى بطريقة أولية ليعلمهم كيفية الصلاة ويحثهم عليها"، والكلام للدكتور نسيم.

ينقل عن الداعية المعروف حازم السراج، قوله: "كنت تلميذا عند الشيخ بالمدرسة، وكان دائما يعلمنا الصلاة ويؤكد على صلاة الجماعة"، فإذا بوالد السراج يلتقي مع الشيخ ياسين ليخبره عن تقصير طفله في الصلاة بالبيت.

ويكمل السراج قائلاً: "لم يراجعني الشيخ ياسين بالقصة، وحينما رآني قال لي: حازم أنت متوضئ عشان تصلي معنا"، لم ينته السراج بعد: "أخذني الشيخ وصليت معه وحثني على الصلاة بأسلوب مؤثر ولم أقطع بعدها الصلاة بالمسجد"، فأصبح داعية مشهورا من خلال تأثير الشيخ ياسين.

مواقف مؤثرة

ذات يوم، الشيخ ياسين يحدث التلاميذ الأطفال: "بدنا نجمع منكم مبلغا من مصروفكم"؛ وعلى الفور لبوا طلبه، فأرسل أحدهم لشراء كيلو "ترمس" بالمبلغ، وطلب إحضار أداة حرث أرض، وفي اليوم التالي حرثوا قطعة أرض صغيرة بجانب مصلى المدرسة وزرعوا الترمس، كان التلاميذ كل يوم يرقبون نمو نبتة "الترمس" وبعد مرور أيام وأسابيع نمت النباتات وكبرت، فقطفوها وباعوا الكمية المنتجة، أحضر الشيخ ياسين بالمبلغ أدوات قرطاسية مدرسية، وبدأ يوزعها على التلاميذ لأجل حفظهم القرآن ومحافظتهم على الصلاة، وعلمهم كيف يُجلب المال بالاعتماد على النفس.

"أينما ذهب أثر بالحضور دعويًا".. ما زال الكلام لابن أخيه، ويواصل: "حينما كبر الشيخ ياسين كانت له تأثيراته الإيجابية، فكان ينزل للميدان ويؤثر بالناس، يجمعهم بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن في المسجد الذي أسسه بمخيم الشاطئ للاجئين، وكان يجري مسابقات ويوزع الهدايا وترعرع على يديه بفترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من هم أشهر الدعاة اليوم".

تمتع الشيخ ياسين بأساليب متنوعة بالدعوة إلى الله، يذهب للمساجد ورياض الأطفال ينزل إلى مستوى الأطفال ويعلمهم بعض القصص.

ذات يوم ارتفعت حرارة الشيخ ياسين، فحاول أبناؤه إخفاض درجتها بالكمادات الباردة، وما إن مرت دقائق قليلة فاجأ الشيخ الجميع: "جهزوني يا شباب.. عندي درس بالشجاعية"، يزيد راوي الحكاية: "طلبت من الشيخ أن أذهب بدلا عنه"، لكن الشيخ ياسين صمم على الذهاب وحده، قائلا: "الجماعة طلبوا الشيخ أحمد ولم يطلبوا الشيخ نسيم".

في يوم لافت، ذهب الشيخ ياسين إلى مدينة أم الفحم بالداخل المحتل، نام يوما هناك وأعطى دروسا دينية، وأثناء عودته بيوم الجمعة أدركته صلاة الجمعة بمدينة الرملة: "ابحث لنا عن مسجد قريب".. يخاطب الشيخ ياسين سائقه، وبعد بحث عثر على مكان صغير، وما إن دخل الشيخ المسجد جاءه أحدهم: "الحمد لله، اليوم أول صلاة جمعة وليس لدينا إمام, وقاعدين بنفكر كيف بدنا نمشي اليوم".

كان الكلام من رجل كبير بالسن من غزة أيضًا, ذهب للرملة لزيارة ابنته المتزوجة هناك، وطلبوا منه أن يخطب وهو ليس بخطيب، فخطب الشيخ ياسين وجلسوا معه حتى العصر، وما إن انتهى وهمّ بالمغادرة طلبوا أن يرسل الشيخ ياسين لهم إمامًا كل جمعة، وفي الجمعة التالية أرسل نسيم ياسين لأداء الخطبة هناك.

تنوع الشيخ ياسين وتنوعت أساليب دعوته بالمدارس والمؤسسات والجمعيات والجامعات والمساجد، إلى أن أسس حركة المقاومة الإسلامية حماس, التي كان الإعلان الرسمي لها عام 1987م، وهذه الحركة تعتمد على الدعوة بشكل أساس.

يسحب أحد المواقف الدكتور نسيم، فيقول: "كنت مدرس أصول دين وأراد زملاء أكاديميون لي زيارتي في أواخر التسعينيات، وطلبوا أن يقابلوا الشيخ".

حضر الشيخ ياسين وبعد تبادل التعارف، طلبوا منه أن ينصحهم: "أنتم المشايخ أنا بدي منكم النصيحة".. كان رد الشيخ ياسين عليهم، وحينما أصروا عليه سألهم: "طيب جميعكم أساتذة جامعات؛ كم درسًا دينيًا تعطون بالأسبوع؟"، تفاوتت الإجابات من جميعهم بين درس أو خطبة جمعة، فكرر السؤال: "لماذا لا تعطون درسًا كل يوم أو كل صلاة؟"، وقدم درسًا مؤثرًا لهم، وتركزت نصيحته لهم بأن يقرأ متخصص الحديث حديثًا ويشرحه، ومتخصص التفسير آية ويفسرها.

وللقصة بقية

وللشيخ ياسين، أثر كبير في الدعم المجتمعي ومساعدة الفقراء، فأسس جمعيات ومؤسسات خيرية منها المجمع الإسلامي والجمعية الإسلامية التي أصبحت من أكبر مؤسسات المساعدات تهتم بالجوانب الاجتماعية ومساعدة الأسر المستورة، إضافة إلى الجانب الرياضي في حياة الشباب.

أثناء حديثه لنا، ذكر موقفا استحضره من أعماق ذاكرته، في نهار يوم صعب تزاحم الناس أمام بيت الشيخ ياسين كالعادة، ما زال ابن اخيه يسرد التفاصيل: "طلبنا منه أن يرسل ورقة للمجمع الإسلامي حتى لا يعتاد الناس على ذلك ويتفرغ لعمله الدعوي والسياسي والتنظيمي"، لكنه رفض: "الناس بدهم مساعدة الشيخ مباشرة"، وفي إحدى المرات، أغلق الناس من كثرتهم باب منزله يطلبون المساعدة.

يواصل ابن أخ الشيخ ياسين قائلاً: "دخلت وسلمت عليه وأخبرته أن الناس تنتظر المساعدة"، فضحك الشيخ: "لا يوجد شيء نساعدهم به"، ويتابع: "طلبت منه أن أذهب وأخبرهم أن يعودوا مرة أخرى"، لكن الشيخ رفض ذلك: "دعهم يا أبا حسام لعل الله ييسر الأمر"، وأثناء حديث الشيخ مع من حوله وما هي لحظات حتى جاء رجل وأعطى الشيخ 5 آلاف شيقل ليوزعها على المحتاجين وأمر بتوزيع المبلغ على من يقفون خارج المنزل.

حال الشيخ ياسين حال من لا يخاف الفقر في قضية المساعدات، حرص على العلاقات الاجتماعية والتواصل رغم اتصالاته واجتماعاته الطويلة، يذكر ابن شقيقه أنه في مرة، كان الشيخ عنده وانتهت الجلسة بينهم الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل، فطلب منه أن يرفعه عن الكرسي حتى يرتاح، وقال له: "أتدري، من أي ساعة أجلس على هذا الكرسي! (..) منذ التاسعة صباحا وأنا على جلسة واحدة".

يصفه بأن كان أمة يعلم الناس الهمة العالية وطلب المعالي، الجميع يلجأ إلى الشيخ ليتعلم منه، حتى أنه بالأعياد يزور جميع أقاربه ولا يترك أحدًا، كان رمزا للعطاء والعمل، كسب ثقة أصحاب المال من خلال أمانته وإخلاصه وصدقه".

يختم ابن شقيقه ليدلل عن رحمة الياسين، وأنه صاحب عاطفة جياشة بعيدة المدى، أنه ذات مرة جاءت امرأة من خان يونس وطلبت رؤيته لتحصل على مساعدة لعدم وجود أي شيء ببيتها، فطلب أن يخرجوا 100 شيقل من جيبه، ولكن لم يجد أي شيء، فطلب من أحد المتواجدين حوله المبلغ وقال لهم: "جاءت من خان يونس (..) حرام نردها خاوية اليدين".

حتى أن شابا جاء إليه يشكو أنه خطب ولا يستطيع الزواج وأن حماه يهدد بفسخ الخطوبة إن لم يجهز باقي المراسم، سأله الياسين: "ماذا تحتاج؟"، فأخبره ذلك الشاب أنه يريد طقم نوم، فطلب الياسين من أولاده أن يحضروا 500 دينار وأعطى المبلغ لذلك الشاب.