ينقسم الناس في علاقاتهم إلى نوعين: نوع اجتماعي متداخل مع وسطه، ونوع ثانٍ عكس ذلك يحب العزلة والابتعاد عن الآخرين.
الاجتماعي يعمل بالمثل الشعبي الدارج "الجنة بدون ناس ما بتنداس"، ويرى بأن حياته تكتمل بالأصدقاء والأحباب والزملاء والخِلّان، واللقاءات والرحلات.. إلخ، ولا يستطيع تخيل يومٍ في حياته دون أن يكون في جَمعة وسمر.
أما المعتزل فهو الذي يرى حياته في الهدوء والخلوة والابتعاد عن صخب الناس، وهو بذلك يظن أنه ارتقى بمستواه عن مسلكيات عامة الناس، وترفّع عن أحاديثهم ومجالسهم، وقد تمضي أيامٌ لا يحادث أحدًا أو يحضر جلسة، وهو في ذلك من السعداء.
وحقيقةً إنّ الناظر في الواقع والأثر -للوهلة الأولى ودون تفحص- يلتبس عليه الأمر ويحتار فيما يختار: الخُلطة أم العُزلة؟، لكن شيئًا من البصيرة والتأمل يمنح المرء إدراكًا لطبيعة التعامل مع البشر من حولنا.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكد على ضرورة مخالطة الناس، في الحديث الذي رواه الترمذي: "المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم". وفي هذا الحديث توجيه وتنبيه: توجيهٌ بمخالطة الناس، وتنبيهٌ بأن في المخالطة أذى يجب أن يصبر عليه الإنسان، وقد قال ابن عثيمين -رحمه الله- في شروحاته لهذا الأمر: "العزلة خير إذا كان في الخلطة شر، أما إذا لم يكن في الخلطة شر؛ فالاختلاط بالناس أفضل"، وهناك يتضح لنا أن الإنسان يجب ألا يكون حَديًا في موقفه من التعامل مع الناس من حوله، إما خلطة مطلقة أو عزلة مطلقة، بل عليه أن يراعي أن اختلافات الناس هي معياره الأول في مخالطتهم من عدمها، وثانيًا أن يضع لنفسه حدًا فاصلًا في علاقاته معهم، فلا يكونن متداخلًا لدرجة إذابة التقدير والاحترام، والتدخل في الشئون الخاصة لأيٍّ كان، وثالثًا أن يجعل لنفسه نصيبًا من العزلة، يخلو بها مع نفسه، ويراجع حياته وحساباته، حتى لا تأخذه أحاديث الناس ومشكلاتهم وهمومهم بعيدًا عن أهدافه في الحياة.
إن الاقتراب الشديد في عالم الطبيعة يؤذي، ويحول بيننا وبين تلمس الجمال، فرؤيتك للقمر عن بعدٍ أجمل؛ لأنك لو اقتربت منه -وهو الذي تغنى به الشعراء- فلن ترى إلا حجارة ومساحات خالية، كما أن الاقتراب الشديد من البشر يولد توتراتٍ وأذىً، لذا لا تحتك بشكل دائمٍ مع البشر، فهو أدعى لحفظ الوُد وزرع المهابة.