إحدى الركائز الرئيسة التي تعتمد عليها الأحزاب السياسية في معركتها الانتخابية وسعيها لإقناع الناخب لكسب صوته هي الرؤية الشاملة والأيديولوجية الخاصة بها، التي تُميزها من غيرها من الأحزاب؛ لكن ما تشهده الحلبة السياسية الإسرائيلية -وخصوصًا في المعركة الانتخابية الحالية- يُجسد بوضوح غياب الأيديولوجيات وتلاشي الفروقات, فلا تكاد تُميز بين موقف للمعسكر اليميني وموقف لمعسكر الوسط وآخر لليسار، فباتت السمة الغالبة هي الانجرار خلف استطلاعات الرأي، وملاءمة مواقف الأحزاب لما يميل إليه غالبية الجمهور، على قاعدة "ما يطلبه الناخبون"، وليس أدل على ذلك من موافقة زعماء التيارات الدينية القومية على ترأس وزيرة القضاء السابقة آيليت شاكيد زعامة حزب (إلى اليمين) لأنها تحظى بقبول أكثر في الشارع الإسرائيلي، رغم تعارض القرار وطابع وخصوصية التيارات الدينية القومية لكونها علمانية وامرأة, هذه الحالة هامشية مقارنة بما يحدث في حلبة الصراع بين الأحزاب السياسية التي تتمحور حول عدة مسارات، أهمها:
أولًا: الانزياح الواضح للجمهور الإسرائيلي نحو اليمين بجميع تصنيفاته العلمانية والدينية أدى إلى احتدام الصراع بين الأحزاب السياسية لنيل رضاه، وإظهار مدى تمسكهم بالمواقف اليمينية التي تنسجم مع ميوله ورغباته، ومن الملاحظ أن زعماء حزب "أزرق أبيض" الذي يُصنف ضمن معسكر الوسط باتوا يرددون الشعارات نفسها التي يرددها زعماء اليمين المتطرف, كالتعهد بعدم إخلاء مستوطنات والاحتفاظ بغور الأردن وعدّ القدس الموحدة "عاصمة أبدية لـ(إسرائيل)", بل إن أحزاب الوسط واليسار على حد سواء لم تجرؤ على ذكر حل الدولتين، واقتصرت على إبداء موافقتها على تجديد المفاوضات للتوصل إلى اتفاق مبدئي لا نهائي، وتأكيد ضرورة تقديم المساعدة للسلطة الفلسطينية لإعادة فرض سيطرتها على غزة.
ثانيًا: فشل نتنياهو في تشكيل حكومة برئاسته واضطراره إلى التوجه لصناديق الاقتراع مرة أخرى خلال عام واحد أدى إلى احتدام الصراع على أصوات الجمهور اليميني حتى داخل الأحزاب اليمينية، وقد استخدموا مصطلح (يساري) الذي يرمز إلى السلام مصطلحًا معيبًا لتشويه صورة الخصوم، ومن المفارقات العجيبة اتهام نتنياهو المتطرف ليبرمان بأنه يساري، واتهام اليميني المتطرف بتسئيل سموترتش لنتنياهو بأنه يسعى لتشكيل حكومة يسارية، مع أن حكومته من أكثر الحكومات يمينية في تاريخ الكيان الإسرائيلي.
ثالثًا: التهافت على أبواب المنتديات الخاصة بالشواذ الجنسيين (المثليين)، لاسيما أن الدراسات تشير إلى أن نسبتهم توازي 14 مقعدًا في الكنيست، وهو العدد الذي تحلم بعض الأحزاب والكتل الوازنة بالحصول عليه, وقد دفعت هذه المعطيات بقادة الأحزاب للمسارعة إلى تقديم الوعود والتعهدات بمنحهم المزيد من الحريات, حتى لو تعارضت هي ومبادئهم، فها هو ليبرمان الذي هاجمهم قبل مدة يعلن أنه سيشكل تيارًا خاصًّا بهم, أما نتنياهو فقد عين المثلي أمير أوحانا وزيرًا للقضاء, وترأس نيسان هورفيتس زعامة حزب ميرتس وتولى إيتسك شمولي منصبًا رفيعًا في حزب العمل, ومن الغريب أن حزب اليمين الجديد الذي يتبنى رؤية دينية قومية قد أبدى تأييده ومساندته للقرارات التي تمنحهم حرية العمل.
رابعًا: الارتفاع الحاد في نسبة المتعاطين لأحد المواد المخدرة (الكنابيس) في الكيان الإسرائيلي، حيث تضاعفت نسبتهم أربع مرات خلال الأعوام الماضية لتصل إلى 30% تقريبًا، أدى إلى تسارع قادة الأحزاب للتعهد بشرعنة استخدامها تحت مسميات وذرائع متعددة؛ بل إن حزب "زهوت" جعل هذه القضية محورًا لدعايته الانتخابية رغم طابعه الديني.
ما ذكرناه آنفًا هو غيض من فيض وزاوية واحدة من زوايا المشهد السياسي في الكيان الإسرائيلي, أما ما تحتويه الثنايا فيدل على تعقيدات المشهد أكثر وأكثر، لاسيما أن بعض الأحزاب الوازنة تشتمل على تيارات لا تخلو من التناقضات، وجماعات ضغط داخلية لتحقيق مصالح خاصة، كتيار سائقي الدراجات النارية، وممثلي الشركات الصناعية والمطارات وغيرها, ما يفسر أيضًا سبب حل الحكومات قبل انتهاء مدتها القانونية، وعجزها عن اتخاذ قرارات مصيرية، كقضية التجنيد وإجراءات تقديس حرمة السبت وغيرها من القضايا الشائكة، ويدل على تراجع المنظومة السياسية في الكيان الإسرائيلي وفاعليتها.