من يُمعن النظر في أمر هذه الأُمة، يلاحظ وبكل ألم أنها تعاني ومنذ عقود مضت مِن التراجع المستمر، والانحدار نحو الهزيمة، والميل للاستسلام، بحيث يرى الناظر في أمرها أنها أصبحت أمة لا تكاد تحيا بدون تبعية وانهزام، فقد توالت عليها الهزائم واحدة تلو الأُخرى، عسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية وفكرية، فتفرقت واضمحلت أسباب قوتها وانتصارها، وصارت ملامح العجز والفشل واضحة فيها لا يمكن إخفاؤها، فهي تواجه واقعا مأساويا قد تمتد آثاره إلى تهديد هويتها القومية والحضارية، فسلوكياتها أصبحت مثار تساؤل، وهزائمها المستمرة أضحت تدل على وجود حالة فكرية في صفوف معظم عامتها ونخبها تشكل الأرضية الخصبة للانحدار والتراجع، وهو ما يسميه الباحث هنا "فكر الهزيمة".
فالأُمة العربية تعاني منذ عقود طويلة من الهزائم المتكررة والتي جعلتها تعيش حالة من الضعف والتفكك، وأرهقتها بحيث صارت تابعة واتكالية، الأمر الذي زاد من الشعور بانتقاص الذات داخل المجتمعات العربية، بحيث أصبح العربي يتماهى في وضعية من الرضوخ والاستسلام، والتي خلقت عنده حالة من اللامبالاة بواقعه العصيب، تجلت في قلة الإنجازات من حرب العام 1967م "النكسة" ومن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة 2014م؟
شكلت هذه الحالة المزرية وما رافقها من صفاتِ العجز والانهزام والفشل مدخلا للكثير ممن اعتبرها أصلا في تكوين العقل العربي وليست وليدة عصور من الاستبداد والهزائم، ويمكن التعرف على هذه الحالة الفكرية بوضوح أكثر من خلال المقارنة بين حرب العام 1967م "النكسة" والحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة 2014، من خلال مقارنة مجموعة من العوامل والتعرف على تغير منحنياتها إما سلبا أو إيجابا. فما زالت هزيمةُ حزيران من العام 1967م تُلقي بظلالها على الوطن العربي وخصوصا مصر وبلاد الشام. فما حدث ترك آثاره الواضحة محفورة في ذاكرة الأجيال اللاحقة على امتداد السنوات الماضية، وشكل نقطة محورية في مسار القضية الفلسطينية والعلاقة مع (إسرائيل).
فاذا ما استرجعنا ذاكرتنا سنجد أن الحرب عام 1967بعد انتهائها وهزيمة الجيوش العربية أمام (إسرائيل) أثارت مجموعة من التساؤلات، لعل أبرزها يتمحور حول ما إذا كانت نتيجة الحرب هي هزيمة للنظام العربي الذي خاضها دون أنْ يستعد لها، أم أنها كانت هزيمة للشعوب العربية أيضا؟ التي خضعت لتلك الأنظمة الفاسدة، وهل هي هزيمةٌ عسكرية مادية أم هزيمة إرادة؟ ام ان حرب الواحد وخمسين يوما على غزة كانت نتيجة حتمية لاستعادة ما خسره العرب في حرب عام 1967م بسبب "فكر الهزيمة"؟
هنالك مجموعة من العوامل التي ساهمت في هزيمة العام 1967م بشدة، وكان لها أثر في تعميق الهزيمة، وهذا ما سنحاول مقارنته بالحرب الأخيرة على غزة لمعرفة إذا ما بقيت هذه العوامل على حالها، أم تراجعت؟.
فبغض النظر عن الاعلام المشوه الذي ضلل العرب رغم أهميته في المعركة، وكذلك التبرير بإلقاء الهزيمة على عنصر المفاجأة وهو أيضا كان سببا في خداع العرب إلى حد كبير، لكن ما اريد التذكير به وهو الهزيمة النفسية والتقهقر الداخلي قبل وقوع الحرب خوفا من مقولة قوة الردع الإسرائيلية ودعاية الجندي الذي لا يقهر، بل أكثر من ذلك فمن العلامات الدالة على فكر الهزيمة منذ العام 1967م وحتى الآن إرجاع ورد الهزائم إلى أفكار خيالية، فهناك عدد من المثقفين ومن البسطاء ينسب الهزائم في وجه (إسرائيل) إلى سيطرة الحركة الصهيونية على العالم بأسره، وعلى مقدرات الأمم والدول، وحتى على مجرى التاريخ برمته. فهناك من يرجع كل هذه السيطرة إلى (بروتوكلات حكماء صهيون) ليبرهنوا على أن الصهيونية هي المسيطر الأول على العالم، وبالتالي لا يمكن هزيمتها، فوفقا لهذا التفسير الخرافي، يجتمع حكماء صهيون مرة على الأقل كل قرن لوضع خططهم السرية، التي لا يحيد العالم عنها قيد أنملة بسبب ذكائهم المفرط، بل حتى أن الفكرة الرأسمالية والاشتراكية هي من نتائج هذا التفكير.
إن تضخيم قوة العدو وصبغها بصبغة أسطورية أهم أساليب تبرير الفشل وإزاحة مسؤولية الهزيمة عن النفس، وإسقاطها على عوامل خارجةٍ عن نطاق الإرادة، الأمر الذي يعني مزيدا من الاتكال والركون والميل نحو الاستسلام وإقناع النفس بعدم جدوى مقاومة مثل هذه القوى. إن هذا النمط من التفكير الخيالي يرتبط ارتباطا وثيقا بفكر الهزيمة كونه يُهيئ النفس للخنوع ورفضِ المحاولة.
هذا النمط من التفكير لم يكن موجودا في الحرب الأخيرة على غزة، فرغم وضوح الدعم العالمي للاحتلال بكل قوة، إلا أن العقل في غزة تعامل مع الأمر بأنه واقع يجب مواجهته لا أمرا خياليا خارجا عن القدرة ولا فائدة من التصدي له، وهذا شكل أحد أسباب الصمود والانتصار.