فلسطين أون لاين

​يمكنك التنازل عن حقك.. بشرط

...
غزة- هدى الدلو

لقد تميزت الشريعة الإسلامية بأنها شريعة الحق والعدل، قامت أحكامها وتشريعاتها على ذلك، وهدفت لتحقيقه، والناظر في طبيعة أحكامها يجد أنها أعطت كل ذي حق حقه، وضمنت أخذه والتمتع به بعد ثبوته، بغض النظر أكان صاحب هذا الحق قويًّا أم ضعيفًا، صغيرًا أم كبيرًا، رجلًا أم امرأة، مسلمًا أم غير مسلم، وهي في الوقت نفسه أجازت لصاحب الحق التنازل عنه لغيره، ولكن وفق ضوابط وشروط، فما نتحدث عنه هو التنازل عن الحق بين باب الخوف والخجل، ومعرفة أهم الضوابط والشروط لذلك، هذا هو محور حديثنا في السطور التالية:

د. زياد مقداد أستاذ مشارك في الفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية قال: "التنازل عن الحق لابد أن يكون وفق ضوابط وشروط، كأن يكون التنازل عن رضا واختيار حقيقي دون ضغط أو إكراه أو تهديد أو خوف أو خجل أو حياء، فقال (صلى الله عليه وسلم): "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه"، وقال (تعالى): "فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا"، ما يفهم منه أن التنازل عن الحق بغير رضا وطيب نفس لا يجوز".

وأضاف: "يشترط أيضًا أن يكون التنازل صادرًا عن بالغ عاقل راشد، وكذلك ألا يتسبب بمعصية أو حرام، وعليه إن كان التنازل بغير رضا تحت طائلة التهديد أو الحياء والخجل لا يصح، وكذلك لو كان هذا التنازل ممن لم يصل إلى سن البلوغ أو لم يكن عاقلًا رشيدًا، كما لا يصح التنازل عن الحق لجهات تستخدم هذا الحق في المحرم أو المعصية".

وتابع د. مقداد حديثه: "ولذلك إنني أهيب بكل المسؤولين وولاة الأمور ألا يمارسوا ضغوطًا على الضعفاء من الأطفال والنساء وغيرهم ليتنازلوا لهم عن حقوقهم؛ فإن هذا مما منعته الشريعة وحرمته، وعدته ظلمًا وأكلًا للأموال بالباطل".

وبين أنه في الأصل المحافظة على الحقوق خاصة أو عامة، ولكن إمكانية التنازل عن الحق الخاص مشروعة بالضوابط السابقة الذكر، أما الحق العام فالتنازل عنه دائرته أضيق وضوابطه أشد، لأن المالك للحق العام هو المجتمع كله، فلا سبيل للتنازل عن هذا الحق إلا في أضيق نطاق، كما لو كان الحق عقوبة متعلقة بشخص من ذوي الهيئات المعروفين بالصلاح، ولم تكن العقوبة من عقوبات الحدود، فعندها يمكن التنازل من ممثل المجتمع، وهو الحاكم أو القاضي، لقوله (صلى الله عليه وسلم): "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وينبغي أن يراعى أن يكون هذا التنازل ليس بالتهديد، أو حياء، أو لأن من يُتَنازل له صاحب نفوذ وسلطة وجاه، ولكن بناء على مصلحة حقيقية يراها الحاكم أو القاضي.

أما عن تأثير التنازل بسبب الحياء والخوف على المجتمع فأوضح د. مقداد أن هذه الظاهرة إذا انتشرت بين الناس ترتب عليها نتائج سلبية وخطيرة على الفرد الذي تنازل بغير رضا واقتناع، إذ سيشعر بالقهر والظلم والنقمة على المجتمع، ويدفعه ذلك أن يكون مواطنًا سلبيًّا وغير متفاعل مع مجتمعه، بل ربما يدفعه إلى الكفر بمبادئ المجتمع الذي يعيش فيه، ويفقد الثقة بكل من حوله، وسيجعله يتعامل بهذه الطريقة عندما تتاح له الفرصة لذلك.

وذكر أن لهذه الظاهرة مخاطر كبيرة ينبغي أن نحذرها، أما على المجتمع فيترتب على ذلك اضطراب الثقة بين أبنائه، وتفتت العلاقات بينهم، ما يؤدي بالمجتمع إلى مزالق الضعف والهلاك والضياع.

ولفت د. مقداد إلى أنه يجب التخلص من الخوف والخجل، ويختلف ذلك باختلاف الظروف والأحوال، فمثلًا إن كان هناك حكومة عادلة فيمكن لصاحب الحق الذهاب إلى المحاكم لحماية حقه، ولكن هذا الطريق يكون آخر الوسائل، أي أنه يحاول أولًا أن يرسل إلى من ابتز حقه رجالًا من رجال الإصلاح، أو من رجال العائلة، أو وجهاء الحي الذي يعيش فيه، ليبينوا عدم الرضا عن هذه الطريقة في التنازل، ويخوفونه من غضب الله وعذابه.

أما إذا لم تكن هناك حكومة أو سلطة تهتم برد الحقوق ونصرة المظلومين؛ فعلى الشخص المظلوم الذي تنازل عن حقه بالحياء والخوف أن يبحث عن كل الطرق لاسترداد حقه والمطالبة به، على ألا يؤدي ذلك إلى مفسدة أكبر أو ضرر أشد، وفق قوله.

خاطب د. مقداد الضمائر الحية في مجتمعنا المحاصر الذي يقع تحت الظلم والقهر أنْ لا يشاركوا في زيادة القهر والظلم على الفئات الضعيفة، وأن يتقوا الله فيهم؛ عسى أن ينظر الله إلينا بعين الرحمة؛ فيكشف عنا ما نحن فيه من محن وآلام وشدة".