تقاطعت تحليلات أغلب منتقدي هذا القانون من العرب والفلسـطينيين في مفاصل جوهرية، فهو ترسيم لمجمل سياسات حكومات الاحتلال الممارسة بحق أبناء شعبنا كافة، فهو بهذا المعنى شهادة من أهل البيت حول المضمون الكولونيالي العنصري للكيان الصهيوني بعد تجريده من الادِّعاءات الرسمية، ومن مانشتات الديمقراطية وشعارات السلام العادل والدائم للصراع الصهيوني العربي الفلسـطيني.
وفي إطارها الموافقة على ما سُمي حل الدولتين الذي ولد ميتًا وجاء التوقيت المناسب لإشهار شهادة وفاته رسميًّا وأيضًا التفسير الصهيوني للبنود الضبابية التي وردت في وثيقة الاستقلال.
وهنا لا بد من التأكيد أن غضب المعارضة السياسية الصهيونية ورفضها لهذه الصيغة لا تتعدّى أهدافه محاولات هذا التيار البائسة للإطاحة بحكومة "نتنياهو" فهي لا تختلف من حيث الجوهر مع هذه الصيغة ما دام سقفها وثيقة الاستقلال، والخوف من الخطر الديمغرافي الذي يهدد يهودية الدولة في حال استمرار الاحتلال الراهن، وما يمكن أن يجلبه من انتقادات دولية تشوش على (المضمون الديمقراطي) للدولة على حد تعبيرهم.
لكن هذا التقاطع على المستويين الوطني والقومي يحتاج لأن تؤسس مجمل الاستخلاصات لإعادة بناء برنامج المواجهة العربي والفلسـطيني الإستراتيجي المؤهل للرد على هذا التحدي، وعلى أنها الأساس لاشتقاق المهام التكتيكية والضابط لها في ميدان الممارسة، فالقانون حدد بصراحة غير مسبوقة أن حق تقرير المصير حق حصري لليهود فقط دون سواهم من سكانفلسطين، فهو إذًا رفض قانوني حصري لوهْم إقامة دولة فلسـطينية على أي جزء من فلسطين عبر ميكانيزمات مشروعات التسوية والمفاوضات، وبالتأكيد فهو رفض قاطع لحق العودة كأحد تجليات ممارسة شعبنا لحقه في تقرير المصير.
ومن المفروغ الجزم به أن القانون يجرد شعبنا في الجزء المحتل من فلسطين عام 1948م من وهم المواطنة الذي تفاخرت الدولة الصهيونية بمنحه للعرب الفلسطينيين الذين لم تستطع إجلاءهم، فالقانون المذكور أسِّس للتعاطي معهم وتحديد وضعهم كحال العمال الأجانب المجنَّسين في أحسن الأحوال، أي كمقيمين في دولة اليهود وليس كأصحاب الأرض الأصليين، فإن هذه المكانة محفوفة بمخاطر مستقبلية مفتوحة على كل الاحتمالات، فللقانون تداعياته التشريعية الخطيرة والتي تبدأ بتحديد معايير المواطن الصالح ورزمة الحقوق الممنوحة لها كمواطن من الدرجة الأخيرة، والذي قد يؤدي الإخلال بها إلى خطر الطرد والتهجير.
أما النقطة الأكثر جوهرية فهي إضفاء الإطار القانوني المحكم لقدسية استيطان الشعب المختار في أي مكان من أرض فلسطين التاريخية، فضلًا عن الجولان السوري المحتل، فماذا تبقى لكل من يحاول التعويل على وهم عملية السلام المزعومة، والمطالبة بإعادة بنائها فهل طرحت مخرجات التجارب الاستيطانية في التاريخ الحديث حلولًا تضمنت تنازلًا إراديًّا من جانب المستوطنين تبدأ بالاعتراف بالآخر صاحب الحق التاريخي في الأرض وما فيها وما عليها؟ فالتجارب الملموسة تقودنا إلى قراءة التجربة الأمريكية في قسمها الشمالي حيث أقيمت الأمة الأمريكية الحديثة على جماجم الملايين من قبائل الهنود الحمر وتدمير منجزاتهم الحضارية، لتشكّل أقسى تجربة للتطهير العرقي والإلغاء الجسدي والثقافي وثقافة الاستعلاء والتمييز العنصري، أو تجربة المستوطنين الأوروبيين في أستراليا المتقاطعة مع التجربة الأمريكية من حيث الجوهر والكثير من التفاصيل، أو تجربة الاستيطان الإسباني والبرتغالي بأمريكا الجنوبية، حيث نجحت مقاومة السكان الأصليين في طرد المحتلين وامتصاص المستوطنين وانتصار مدرسة سيمون دي بوليفار الأب الروحي والعملي للحركة التحررية في هذه القارة.
وما آلت إليه تجربة الاستيطان الأوروبي لجنوب إفريقيا وزيمبابوي، حيث أجبرت مقاومة الأغلبية السوداء والملونين على تفكيك نظام الفصل العنصري الذي كان آخرها انتصار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على حكومة الأقليات البيضاء، وإجبارها على تفكيك نظامها السياسي وبناء البديل الديمقراطي لهذا النظام.
وإذا نجحت التجربة الأمريكية المتقاطعة مع التجربة الصهيونية في منطلقاتها الأيديولوجية في إبادة السكان الأصليين فإن مقومات تكرار هذه التجربة في فلسطين لا يزكيها المعطيات الواقعية والتاريخية، فشعبنا تجاوز مرحلة البناء العشائري والقبلية كأجنَّة لأشكال التنظيم السياسي للمجتمع، وهو ليس معزولًا أو مقطوع الجذور بوصفه جزءًا من الأمة العربية التي تمتد جذورها إلى الماضي السحيق، وأصبحت معطًا موضوعيًا تاريخيًا لا يمكن القفز عنه أو تجاوزه، الأمر الذي يعني بالضرورة أن ممكنات الانتصار في الاشتباك التاريخي المفتوح مع الكيان الصهيوني هي المآل الذي سيفضي إليه الصراع الصهيوني العربي الفلسطيني، فهو منسجم مع منطلق التاريخ والاتجاه الصاعد لحركته الموضوعية.