الوطن العمانية
كعادتهم، وما لا ينتظر منهم سواه، يدير المحتلون حربًا لا هوادة فيها ضد الوجودين المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني في كامل فلسطين التاريخية. هذه الأيام تتسارع وتائر حربهم هذه لعاملين، أحدهما حفَّز هذا التسارع والآخر من دوافعهم إليه. الأول، إحساسهم بتوفُّر البيئة التصفوية الأنسب للقضية الفلسطينية متمثلةً في أمرين هما، تفاقم حال الخنوع الرسمي العربي وبؤس الواقع الأوسلوي الفلسطيني، إذ إن أولهما، ولا نعمم، قد تجاوز العجز وتعدى التواطؤ إلى الهروب من مواجهة العدو التاريخي بالتحالف معه لمواجهة بديله الوهمي، وثانيهما، تحوُّل سلطته موضوعيا لمجرَّد أداة أمنية تتعاون مع الاحتلال لحفظ أمنه ولا تتورَّع عن المساهمة في حصار جزء من شعبها وتجويعه لتركيعه وإسقاط بندقيته.
أما الثاني فهو قراءتهم لخطورة ما تؤشِّر عليه مسيرات العودة وما رافقتها من ابتكارات نضالية قضَّت مضاجعهم، لا سيما وأنهم لا يعزلونها عما يقلقهم مما يشهدونه من إرهاصات نهوض تعكسها بشائر انتصارات يسجلها محور المقاومة في سوريا، إلى جانب ما لا يفوتهم مما يرقبونه من تحولات إقليمية وكونية منذرة… المطلوب الآن، بالنسبة للمحتلين، سرعة الإفادة من متاحين هما، حدب الحاضنة الأميركية في نسختها الترامبية المعبَّر عنه تصفويًا بـ"صفقة القرن"، واستشراء وباء التصهين لدى أنظمة التبعية العربية، ناهيك عن اختراقه لوعي شرائح مستلبة وعقول نخب ثقافية ارتزاقية تدور في فلك أنظمتها وتبرر تصهينها وتروّج له.
في الضفة، تم رفع حظر سابق لاقتحام الحرم القدسي من قبل أعضاء كل من حكومة الاحتلال والكنيست، دشَّنه فور رفعه الوزير أوري أريئيل، أما الكنيست فهو بدوره بصدد إقرار لقانون يبيح للمستعمرين نهب ما شاءوا مما تبقَّى من أراضيها. القانون السابق يعطي المستعمرات حق الاستيلاء على ما أقيمت عليها من أراضٍ مغتصبة، والجديد يجيز للمستعمرين امتلاك ما استولوا عليه من أراضٍ سرقوها، إلى جانب سياسة القمع والتضييق اليومي المتبع على المواطنين، وملاحقة المقاومين بالتنسيق مع أجهزة السلطة.
وفي غزة المحاصرة، يوالون حربهم التجويعية بتصعيد وصل حد خنق المنفذ التجاري الوحيد، "كرم أبو سالم"، الذي كان يعمل جزئيا، وتحت مراقبتهم، ووفقما يسمحون به وما لا يسمحون، بحيث لن يمر منه سوى بعض ما يدعونه بالأساسيات من الأغذية والأدوية، ومواصلة معتاد التضييق على صيَّادي غزة…راهن حربهم على غزة تشن وفق مسارين: التجويعي، بالتوازي مع تواتر لوفود المتوسّطين الحاملين كلهم، أقربين أو أبعدين ومعهم مبعوث الأمم المتحدة، لافتة واحدةً هي "تخفيف الأزمة الإنسانية"، بمعنى مقايضتها الرغيف بالطائرة الورقية!
تضبط حرب اللاهوادة بتجلياتها في الضفة وغزة إيقاعاتها على نوتة "صفقة القرن" التصفوية غير المعلنة، ولتمريرها تجنَّد الوساطات وتنشَّط القنوات، ولرفد مهمة المتوسّطين تأتي خطوة إغلاق منفذ "كرم أبو سالم"، والتي يراد لها أن تكون من ضغوط اللحظة الأخيرة.
لقد منحتهم اتفاقيات "كامب ديفيد"، ووادي عربة، وأوسلو، جل ما يريدونه، وجادت عليهم "مبادرة السلام العربية" التي رفضوها بحلم التطبيع، وها هو الآن، ومن دون قبولهم لها، يبدأ في الخروج من تحت الطاولة إلى ما فوقها، ليصفها وزير حربهم السابق يعلون قبل أيام بأنها "تحمل أهمية تاريخية لـ(إسرائيل)"، مشتكيا من أن العقبة الرئيسة أمام التطبيع هي الرأي العام في الوطن العربي، لكنما تصفية القضية، والتي هي الاستهداف المعلن لـ"صفقة القرن" المبهمة، لا يمكن إنجازها دون إسقاط البندقية الفلسطينية المقاومة، لذا حاصروا غزة لعقد وعامين وسيستمرون في حصارها ولن يرفعوه أملًا في إسقاطها، لتأتي مسيرة العودة لتؤشر على استحالته.
هذه الاستحالة هي الكامن وراء بادي الإرباك والقلق الذي يعم كيانهم ولم يعد كتيما؛ إذ يسم كثيرا من التحليلات التي تناولتها صحفهم الرئيسة في الآونة الأخيرة، إذ ردت كلها، بشكل أو بآخر، خطوة وزير حربهم ليبرمان بشأن منفذ "كرم أبو سالم" لما دعته "هآرتس" "يعبّر عن الإحباط في المستوى السياسي والعسكري من الوضع الذي نشأ على حدود قطاع غزة. الوسائل التي جرَّبها جهاز الأمن ردًا على الطائرات الورقية الحارقة لم تؤدِّ إلى نتيجة حقيقية". هذه الوسيلة الكفاحية البدائية التي، وفق ما يقوله ليبرمان نفسه قد أحرقت 28 ألف دونم من مزارع المستعمرات، وتقول الصحيفة إنه "في الأسبوع الأخير تم إحصاء من 10 إلى 20 حريقًا في غلاف غزة يوميًا".
أما زميلتها "يديعوت أحرونوت" فالمقلق لها أكثر هو تمكّن المقاومة من تغيير قواعد الاشتباك بحيث باتت المقاومة "لم تعد مردوعة بالمرة، وإنها تستمر في وضع قواعد اللعبة" في إشارة منها لمعادلة "قصف مقابل قصف"، التي اعتمدتها الفصائل في غزة، وكنا قد أشرنا إليها في معالجات سابقة، لتخلص الصحيفة إلى التشديد على أن "إسرائيل خسرت في المعركتين الحربية والدعائية على حد سواء"، بينما صحيفة ثالثة هي "معاريف"، إذ تتفق مع "يديعوت أحرونوت" حول مسالة الردع تخلص إلى التحذير من أن ما دعته "الطائرات الورقية الإرهابية هي فقط أداة ووسيلة، وهذا بات من التاريخ، وسيأتي إرهاب آخر"!