فلسطين أون لاين

​مشروع قطريّ وهب السّكان عيشةً واستقرارًا كان مستحيلًا

بُسَطاء غزّة.. ملوكٌ على عرش مدينة "سمو الشيخ حمد"

...
مدينة حمد (تصوير / حنان مطير)
غزة - حنان مطير

كالمجانين اجتاحوا قلبي دون أن يطرقوا بابَه .. تقافزوا أمامي ولاحقوني.. شاكَسوني وبعثروا أشيائي.. "هات الدفتر يا وَلَد".. أحدهم سحَبه من بين يدي ببراعة وركض بعيداً كمن حصل على غنيمة!

الساعة الثانية والربع في مدينة "سمو الشيخ حمد" الواقعة جنوب قطاع غزّة؛ ما زالت الحياة تتململ، لم تفِق بعد من غفوتها، لقد بدَت كأميرة ترتدي ثوباً أخضر، كانت ساحرة، هادئة، إلا من بعض الأطفال يلعبون كرة القدم فوق بساط الإنجيل اللامع تحت أشعة الشمس، فيما الطفلات يقذفن الحجر لمسافةٍ قصيرةٍ على الأرض المبلطة بانتظام ويقفزنَ على رِجلٍ واحدة في لعبتهن المفضلة "الحجلة".

فرحٌ ومرحٌ يغمر وجوه الأطفال فيطفوا على محيّاهم ابتساماتٍ كثيرة وضحكاتٍ، وثّقتها كاميرتي بعد أن اطمأننت على دفتري واسترجعته سالماً.. وكان الصغير قد ساومني حينها على إرجاعه مقابل أن أكتب اسمه فيه كما فعلتُ مع طفلات الحجلة ليان الشاويش وهبة الأستاذ وسميرة وعائشة عابد، واللواتي أقَمن علاقة صداقة قوية في تلك المدينة بفضل تجاور الشقق كما أخبرنني.

"ولا يهمك.. شو اسمك؟" سألته فردّ بصوت عالٍ كاد يخرق أذنيّ ليوحي بكل معاني الانتصار:" إبراهيم النعنع"، حينها ابتسمتُ لابن السادسة وقلت له بلحنٍ مضحك مُداعبِةً:" هذا النعنع نعنعنا".. لينفجر كل الصغار من حولي ضحكاً وألتقط معهم صورة "سيلفي".

كل الأطفال أجمعوا أن كل ما في مدينة الشيخ حمد جميل إنما الأجمل على الإطلاق الأراجيح المنتشرة في كل مكان والساحة الواسعة الخضراء أمام العمارات، وهي التي لطالما حلموا بها في مناطق سكناهم القديمة قبل الحصول على شقّة بالأقساط في هذه المدينة.

أميرة في المدينة

حتى الصبية نظيرة درقل -18 عامًا- كانت المساحة الخضراء الواسعة بالنسبة لها حلما لم تتوقّع أن يتحقّق يوماً، فأقصى طموحها كان أن ترى والديها وقد زال عنهما همّ الدفع لصاحب البيت الذي يستأجرانه.

تروي نظيرة لـ"فلسطين" وقد عادت من جامعتها مشياً برفقة جارتِها وصديقتها المقرّبة بسمة الأستاذ: ما زلتُ لا أنسى مشهد دموع والدتي حين لم يُدرَج اسمنا في قائمة الحاصلين على شقة في المرحلة الأولى، شعرت حينها بقسوة الحياة، إلى أن حظينا بشقةٍ في مدينة حمد وانقلب حالنا للأفضل ألف مرة".

وتصف:" أن تستيقظي من نومك فتفتحين النافذة وتطلين على مساحةٍ واسعةٍ خضراء بهواء عليل يشعرك بأنك أميرة، وقد كان ذلك بنظري مستحيلاً ، لكنني اليوم أراه وقد تحقّق، حتى أنني حين أذهب لجامعتي برفقة صديقتي بسمة أدور بين شوارع المدينة للتّمتع بجمالها وتعويض ما فقدناه مدة 17 عامًا في بيوت الإيجار والازدحام في المنصورة شرق غزّة".

مسجد المدينة

بعد الثالثة بقليل أذن المؤذن معلناً دخول وقت العصر، فامتلأ مسجد المدينة بالمصلين من أهلها، فيما صفّ بعض باعة الخضرة لتحصيل رزقهم عبر بسطاتهم الصغيرة..

ازدان فضاء المدينة بصوت "الله أكبر" صادحاً، فيما نطقت حجارة المسجد وتفاصيل جدرانِه برقيٍّ وفخامة لمساتُها قطَريَّة، هناك وقعت عينيّ على تلك المرأة التي انطلقت برفقة صغيرتيها إلى المصلى الخاص بالنساء.. رافقتها وعرّفتها بنفسي فأخبرتني أنها إيمان البحيصي –أم محمود- وقد خرجت تاركةً أولادها الصغار يلهون في حديقة المدينة، لم تشعر بشيء من القلق، على عكس ما كانت عليه سابقاً في مخيم دير البلح وفق حديثها.

البحيصي خرجت توضح:" لم أكن أجرؤ على تركهم ساعة واحدة في بيوت الإيجار التي قضينا متنقلين بينها مدة 15 عاماً، بينما لم أكن أملك أن أخرج بمجرد أن تظلم السماء".

عائلة واحدة

وتقول:" اليوم أشعر أن المدينة كلها عائلة واحدة، فأنزل إلى الحديقة برفقة جارتي مساءً نحتسي فنجان القهوة بلا أدنى قلق، وكأنني أنزل لحديقة بيتي الخاصة فيما أولادي من حولي يركضون بمرح وسعادة وهذا ما لم يكن يحدث أبداً".

وتضيف:" في هذه المدينة حققت أمنياتٍ لم تكن لتتحقق من ذي قبل، كالصلاة وحضور الندوات وأداء صلاة التراويح في شهر رمضان لقرب المسجد، فقد كان رمضان الماضي أروع رمضان قضيته في حياتي لأنني قضيته في مدينة الشيخ حمد".

وتتبع:" إننا في هذه المدينة كالعائلات المغتربة في بلادٍ بعيدة، فتجد عائلات المدينة تجتمع وتتكاتف كأسرةٍ واحدة، نشتاق للجلوس مع بعضنا والقرب والتعارف، خاصة وأننا تجمّعنا من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، ابتعدوا عن أقاربهم وأهلهم من أجل تحقيق استقرارهم واستقرار أبنائهم".

وصلنا مُصلّى النساء، فكان هادئاً كبيراً وفخماً مفروشاً بسجادٍ عنّابيّ وقد اجتذب إليه عشرات النساء لحضور ندوةٍ دينية أسبوعية عبر مدخلٍ خاص باهر وهناك كانت جارتُها وأنيسة قهوتِها أم محمد النجّار في انتظارِها.

أمام أولئك النساء تجلس الدّاعية المتطوّعة صفاء البطّة على كرسي ومن أمامها المصحف الشريف الكبير مرتكزاً بسنّاداتٍ خشبية، حيث تقدّم درساً دينياً مرةً في الأسبوع غالباً ما يكون درساً في الحياة العامة لتلامس قلوب النساء وعقولهنّ، كما تقول لـ"فلسطين". ومن بين النساء الجالسات كانت رقيّة البيك مصرية الأصل ومتزوجة من فلسطيني، وبجوارِها صديقتها إلهام حمّاد، حيث تخبرنا رقية أنها تنتظر هذا اليوم "الثلاثاء" على أحرّ من الجمر ففيه تشعر بمتعةٍ دينية لا تُضاهَى، وتقول :"المسجد جمّعنا وألف بين قلوبنا". وكانت النساء يجتمعن في المدرسة لحضور الندوات قبل أن يتم استكمال بناء المسجد شوقاً لتجديد الإيمان والطاعات.

كانت فرصتي آنذاك لأداء صلاة العصر في مسجد المدينة، أدّيتُها وانطلقت لاستكمال لقاءاتي قبل نفاد الوقت، فتبتسم لي أم محمود وأودّعها بعد أن أكّدت أن مشروع إنشاء المدينة من أروع وأعظم المشاريع التي نُفّذت في غزّة، موضحةً:" حتى وإن كان بعض أهل المدينة مديونين لكن الوضع الاقتصادي صعب على كل القطاع ومن نال الشقّة نال الراحة النفسية والاستقرار الذي كان معدوماً".

مشاريع ناجحة

الساعة الآن تقترب من الرابعة، بدأت رائحة شهية تتسلّل لأنفي وتدغدغ معدتي، كانت منبعثة من محل قريبٍ لصاحبِه محمد النّفار، الذي راح يقلب شرائح البصل المُتبّل ثم يضيف قطع كبد الدجاج "الاسكندراني" كما أسماه، أما مشهد البخار محملاً بالرائحة المُنكّهة بالبهارات فقد كان مُغرياً لاستراق شيء من الوقتِ وشراء "ساندويش" من الكبدة الطازجة.

الإقبال على المحل كان كبيراً، بل وفوق المتوقّع - وفق النّفار- الذي افتتح مشروعه في المدينة منذ أسبوع فقط، يوضح:" سيكون المحل مطعماً كبيراً، وسيحتوي على 70 صنفاً من المشاوي والمأكولات والأسماك، فالمدينة تستحق أن يكون فيها مطعم مميز".

وقال:" نستمر في استقبال الزبائن حتى منتصف الليل، ما دام الإقبال واسعاً بفضل الله، ثم دولة قطر التي أبدعت وتكرّمت حين شيدت لغزة تلك المدينة الساحرة".

وكان النفار قد سكن في سبع بيوت بالإيجار قبل تملّكه شقة بالتقسيط في مدينة الشيخ حمد، والتي رأى أن الدنيا قد ابتسمت له حين كانت من نصيبه بعد عناء دفع الإيجارات.

وبالقرب منه كان يقف عدنان الرنتيسي -37 عاماً- والذي افتتح له في المدينة محل "حلاقة" فيما افتتحت زوجتُه محل "كوافير" بعدما استحقّا شقةً في المدينة بالأقساط.

يقول لفلسطين:" أمضيت 14 سنة في معسكر جباليا في بيت مساحته 60 مترا وأنجبت فيه سبعة أطفال، وحين استلمت مفاتيح الشقة في المدينة لم تسعنا الفرحة، فانتقلنا إليها فوراً، حتى أننا أمضينا فيها أسبوعين بلا كهرباء، دون أن نبالي، لشدة ما فرحنا بالسكن فيها".

ويضيف:" هنا نشعر بالاستقرار والحياة على أصولها، الماء متوفر 24 ساعة، الحدائق، المسجد، المدرسة.. الخ، حتى الصحبة والجيرة والعلاقات الطيبة تكوّنت وترابطت في هذه المدينة، فأشعر أن كل من في البرج هم عائلتي وعشيرتي ". ويتبع:" إنني ممنون لقطر فلست أدري ما كنت أفعل لو أنني لم أحظَ بتلك الشقّة".

إعمار ما دمّره الاحتلال

وتعدّ مدينة الشيخ حمد، واحدة من المشاريع القطرية الإغاثية والعمرانية العديدة والتي تبرّعت قطر فيها بنحو 407 ملايين دولار لأجل تنفيذها وإعمار ما دمّره الاحتلال الإسرائيلي، وهي مدينة سكنية مقامة على الأراضي المُحررة تحمل اسم أمير قطر الوالد "سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني"، وتضم نحو 3400 شقة سكنية.

وفي الزيارات المتكررة للسفير القطري محمد العمادي إلى غزة، والتي استمع فيها لطلبات المستفيدين من المدينة واحتياجاتهم، تمّ تأجيل دفع الأقساط لعام 2017، 2018، ما أثار فرحةً غامرةً وامتناناً عظيماً في قلوب كل أهالي المدينة الذين نالت منهم الديون وأغرقتهم صعوبة الظروف الاقتصادية.

ساعة الغروب الملهمة

وكان في المدينة جبر أبو الهطل -26 عاماً- يجول على كرسي بعجلتين كبيرتين، خرج ليتنسّم من هواء المدينة البحريّ منتظراً غروب الشمس. لقد فقد ساقيه في حرب الفرقان عام 2008، عندما دمر الاحتلال عمارة أهلِه بالكامل في حي الشعف شرق غزة، فشُرّدوا جميعاً في بيوت الإيجار كما يروي.

ويوضح أنه دفع 13 ألف دولار لمدة 6 سنوات متنقًلا بين بيوت الإيجار، ويعبر:" الوضع تغيّر بفضل الله ثم كرم قطر، فما وضعته اليوم في شقتي سواء بالدفعتين المقدمتين أو الأقساط، وُضِع في بيتي الذي هو ملكي وملك عائلتي الصغيرة".

ومثله خرجت الجارات الثلاث أم أحمد وأم أحمد الأخرى وأم خالد أبو عودة التي قضت بالإيجار مع عائلة زوجِها 27 عاماً، ثلاثتهن جلسن على مقاعد الحديقة يراقبنَ الشمس تارةً وأخرى يتابعنَ صغارهنّ الذين يركضون كأرانب بريّةٍ وسط مزرعةٍ خضراء.

وتوضح أم خالد أن "تلك الجِلسة لم تكن لتحدث أبداً إلا في مدينة الشيخ حمد، فبيوتنا القديمة كانت تفتقد للحياة والرّوح، ناهيك عن بهدلة الأمطار شتاءً ومذلّة صاحب البيت".

وتقول: "في تلك الساحة الخضراء نلقي بهمومنا في الفراغ ، ونشعر براحةٍ نفسيةٍ فيما لا ترهقنا أصوات الأطفال لأنهم يلعبون في ساحةٍ واسعة طَلِقَة".

أول مفتاح

آخر لقاءٍ لنا في المدينة كان بصاحب أول مفتاحٍ فيها، المواطن أبو عبد الله المدهون، الذي يعاني من أمراض القلب والغضروف والتهاب الكبد الوبائي، فهو أول من سكن المدينة، كان يتوق لحمل أغراضه القليلة والانتقال للبيت الجديد، يقول لـ"فلسطين":" سعِدت باستلام مفاتيح الشقّة كسعادتي حين رزقني الله بابني"، ويضيف:" أن تعيش في بيت إيجار 12 عاماً، وأن تستدين في كل مرة لتسد صاحب البيت مالَه، الذي يدق عليك الباب مطلع كلّ شهر، ثم يلاحقك في المحاكم، كل هذه الأمور تجعل حياتك كئيبةً مريرة".

ويضيف:" اليوم أشعر أنني ملك مقارنة بوضعي القديم، فشكر قطر وأميرها الشيخ تميم ومن قبله الوالد سمو الشيخ حمد، لا يساوي شيئاً أمام الإنجاز العظيم الذي قدموه".

أما صغيرته هديل المدهون -11 عاماً- التي كانت تستمع للحوار بتركيز، فأكثر ما أحبته في الشقة الجديدة أنها باتت تنام في غرفةٍ خاصة، تروي بابتسامة "بدلاً عن الصالة التي كنت أنام فيها وإن أراد أحد أن يمرّ يضطر للقفز من فوقِي، وقد يخطو على شعري".

حب وامتنان

وكان الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر السابق قد أوفَى بوعده بعد زيارته التاريخية لغزّة عام 2012 ، ففي تلك المدينة، حيث الأمل والخيرُ العظيم الذي تزرعه دولة "قطر" وتسقيه في الأرض الجرداء، نبتَ الغرس وترعرع، ليحفر في قلوب الغزيّين انتماءً وامتناناً وحبّاً و"مدينة"، فآلة الاحتلال الإسرائيلي دكَّت الأرض ودمَّرت، بينما جاءت "قطر" فشيّدت فيها وعمّرت.

تعالت ضحكات الصغار على أراجيح الهواء فغنّوا: كأنّا نطال النّجمة، وعن شفاهِنا لا تروح البسمة! لقد كان الفرح يتطاير من عيونهم حقيقةً كلّما دفع أحدُهم الأرجوحة فتمتزج ضحكاتُهم بنسمات هواء البحر القريب من المدينة، وتلتقط لهم كاميرا "فلسطين" أجمل الصور قبل أن تترك المدينة المتلئلئة تنبض بالحياة والأمل.