فلسطين أون لاين

خرجت من "رحم الموت" ليعانق يوم ميلادها ذكرى استشهاد عائلتها

تقرير "صابرين الروح" .. رضيعة أهدتها أمها نبضة الحياة ورحلت

...
"صابرين الروح" .. رضيعة أهدتها أمها نبضة الحياة ورحلت
غزة/ يحيى اليعقوبي:

ارتخى رأسها وجسدها على السرير الطبي، بثوانٍ اتسعت بقعة الدماء تحتها ليغرق باللون الأحمر، تملأ شظايا صاروخ إسرائيلي كل موضع في جسدها، ينخرها ألم الولادة وألم جروح ناجمة عن شظايا الصاروخ، وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة التي بدأت تخفتْ، تغمض عينيها وكأنَّها غادرت الدنيا، وبقي جزء منها يقاوم الموت ويتشبث بالحياة، تجمع الأطباء حولها محاولون إنقاذ جنينها وإخراجه للحياة بعملية ولادة قيصرية طارئة تمت دون تخدير، بينما استعد آخرون لوضع الأم في الكفن ووقف النزيف.

وُضِعتْ الرضيعة "صابرين الروح" على كفي الطبيب لحظة نجاح عملية الولادة وسط تهليل وتكبيرات الحضور، ليركض بها من غرفة العمليات والطوارئ نحو قسم الحضانة؛ بينما حملَ الأقارب جثمان أمها صابرين السكني (27 عامًا) وغطوه بالكفن وساروا بها نحو ثلاجة الشهداء والموتى، وهناك اصطفت بجانب جثة زوجها الشهيد شكري الشيخ (29 عامًا) وطفلتهما ملاك (3 أعوام).

خرجت الطفلة من رحم الموت ليعانق يوم ميلادها ذكرى استشهاد أمها،  التي أهدتها نبضة الحياة ورحلت شهيدةً، لتطل الرضيعة على الحياة وحيدةً بلا أب وأم وشقيقة، نجت من بطش الصاروخ الإسرائيلي لكنها لم تنجُ من فقد والديها وشقيقتها، تعيش اليتم مبكرًا بلا دفء عائلة.

بداخل الحاضنة البلاستيكية في قسم الأطفال الخدج، ينبضُ قلب الرضيعة ويخفق، تتنفس من أنبوب اصطناعي يمدها بأوكسجين الحياة، وأنبوب متصل بالوريد لمدها بالغذاء، يسهر الأطباء والممرضون بقسم الحضانة بالمستشفى الهلال الأحمر "الإماراتي" لتقديم الرعاية لها، تعطيهم العلامات الحيوية أملاً باستقرار حالتها كونها ولدت في الشهر السابع وتحتاج رعاية خاصة.

بينما كان عم الطفلة رامي الشيخ يسند كتفي والدته محاولاً تثبيتها وهي تراقب حفيدتها بعينين محمرتين تذرفان دموع الفقد وقلب تكويه نار الفراق، كانت دمعات مرام رفيقة درب صابرين الشهيدة وزوجة شقيقها تطير من عينيها كفراشات هاربة، ترى الطفلة بعين وفي عين أخرى يتحرك أمامها مشاهد من استعداد أمها لاستقبالها وترتيب حقيبة مواليد وسرير، تحملت لأجل ذلك وهن الحمل خلال ظروف حرب صعبة.

يتمزق قلب الحاجة "أم شكري" بصوتها المكلوم الذي ترفقه دموع تدفقت من قلبها: "شكري روحي. قطعة من قلبي وخرجت"، وأصافت والدموع تنساب من عينيها أمام الطفلة الرضيعة: أضافت "كانت تتمنى أمها أن تلد بعد أن تتوقف الحرب".

صابرين ولدت من جديد

تزوج شكري الذي يسكن بمخيم الشابورة بمحافظة رفح بصابرين التي تسكن بمحافظة شمال قطاع غزة وبنيا أسرة سعيدة عاشت في دفء عائلي تحت ظلال حب ومودة اكتمل بإنجاب طفلتهم البكر "ملاك" وكانا يستعدان بلهفة لاحتضان مولدتهم الجديدة التي كانا ينويان تسميتها "روح"، حتى تصبح بالمناداة "روح شكري" كما ينادي على ابنته "ملاكي"، فقررت العائلة تسمية الطفلة "صابرين الروح" لتحمل اسم الأم والاسم الذي اختاره لها والدها، لتولد صابرين من جديد.

كأن مشهد اللحظات الأخيرة حي أمام شقيقه رامي، صوته وإيماءاته وأسلوبه في الحديث يجعلك تعيش الحدث، يقول: "اتصل بي عصر السبت (20 إبريل/ نيسان 2024) وكان يريد حلاقة شعره، فاتفقنا أن نلتقي عند الثامنة مساءً، لكنه تأخر ولم يأتِ فاتصل بي الساعة العاشرة مساءً وأخبرني أنه "يريد خبزًا" فأخبرته أنني سأرسل له خبزًا".

دقَّ قلبه بعد رجفة اجتاحت روحه، عندما ظهر اسم زوجته على شاشة هاتفه بعد حدوث انفجار قريب أثناء ذهاب رامي لزيارة صديق له، بسرعة تمتم مع نفسه قبل أن يرد على المتصل "يا رب يكون الأمر خيرا"  كان صوتها المنبعث من سماعة الهاتف مهزوزًا كمسنٍ لا يستطيع الثبات: "تعال، في قصف قريب على أهلك".

حملته قدامه وركض لبيت عائلته المكون من أربعة طوابق حيث يوجد شقيقه شكري بالطابق الثالث بينما يتواجد بالطابق الأرضي نحو 40 نازحًا من الأنساب والأقارب، تدمرت كل الطوابق العلوية ونجى الطابق الأرضي ومن فيه، "بمجرد دخول شقيقي شكري وزوجته وطفلته وشقيقه زوجته مصطفى (17 عاما) الشقة تم قصفهم بعد نصف ساعة، واستشهدوا الأربعة" تزاحمت الدموع على حواف عينية، ثم صمت محاولاً استرداد تماسكه المثقل بوجع الفقد.

تابع بصوت يملؤه الحزن وهو ينظر للطفلة الرضيعة داخل الحاضنة بنبرات مليئة بالوفاء والعهد: "ترك شقيقي أمانة كبيرة، سنحملها في عيوننا وقلوبنا فهي من رائحة أخي الغالي"، ثم احتل الحزن صوته "المؤلم أنها ولدت في يوم استشهاد عائلته. عندما ستكبر هل تفرح بميلادها، أن تبكي على قبر عائلتها الراحلة".

لم تجمع روابط الأخوة الشقيقين شكري ورامي فقط، بل جمعتهما مهنة الحلاقة والحدادة، كانا توأمين تزوجا معًا، كانا أخوين وصديقين مطلعين على أسرار بعضهما، يتشاركان متاعب الحياة، ويواجهان مصاعبها معًا، يطبطب كل منهما على هموم الآخر، أو يتسابقان لحملها.

تشعر بصوته المكلوم وهو يقلب صفحة ذكريات قائلاً: "عندما تزوجنا سكنت بالإيجار ليتوسع أخي بالبيت، لكني لم أستطع إكمال دفع الإيجار. ساعدني أخي في الحصول على مبلغ مالي من إحدى المؤسسات فقمت ببناء شقة فوق شقته وساعدني كونه حدادا في تغطية السقف بألواح "الزينكو"، فسكنت قبل عام وقبل الحرب بيوم انتهينا من دفع آخر قسط لتلك المؤسسة".

استشهد أربعة من أولاد عمهم في مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 16 فبراير/ شباط، وقبل ذلك استشهد رفيق درب شقيقه، "لم أره بهذا الحزن طيلة حياتي، فكان يحب أبناء عمي ويحب صديقه حبًا شديدًا".

قلبٌ اتسع للعائلة

أما زوجته صابرين، فكانت لا تحب الخطأ، تلتزم منزلها تصفها صديقتها مرام السكني أنها كانت "بيتوتية" لا تتدخل في أحد، تكرس نفسها لبيتها وزوجها وطفلتها، فهذه أولوياتها، وهي خريجة رياضيات من جامعة الأقصى، تخرجت الأولى على تخصصها عام 2018 بمعدل 92%، وحصلت على معدل 97% بالتوجيهي بالفرع العلمي، كان حلمها دراسة الطب لكن معدلها لم يساعدها في ذلك.

"هي إنسانة عبقرية، كانت شخصية اعتمادية تشتغل في كل شيء وتعطي دروسا عن بعد عبر الانترنت، وهي من عائلة الذكاء متوارث بين أفرادها، فكل أخوتها معدلهم عالٍ ويدرس معظمهم الرياضيات، تقدمت لوظائف عديدة وكانت تنتظر دورها في وظائف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"" تقول صديقتها بينما جلست على أريكة على مدخل الحاضنة.

التمعت عيناها بالدمع، وهي تطل على تفاصيل حياة جميلة "كانت ضحكة بيت عائلتها، هي التي تجمعنا، تزورنا كل شهرين بسبب بعد منزلها في رفح ونحن في شمال القطاع، في آخر فترة كانت مطمئنة ولم تخشَ الموت، كانت تحضر فيديوهات عن نعيم الجنَّة".

نزحت زوجة شقيقها وكل عائلة زوجها مع بداية حرب الإبادة الجماعية، ففتحت صابرين وزوجها بيتهم الصغير الذي اتسع لاستيعاب الأنساب، ملامحها ترزح تحت الآلام، تتكدس الآهات في صوتها "احتوتنا جميعًا، وكانت تبكي وتتصل بكل أخوتها ليأتوا عندها. زوجها خلوق كانا متفاهمين لم تحدث بينهما أي مشاكل طيلة زواجها المستمر منذ أربعة أعوام، كان ينادي طفلته "ملاكي" ويتجهز لاستقبال مولدتهم ليناديها "روح شكري".

قبل أن تكون مرام زوجة شقيق صابرين، كانت صديقتها المقربة عام 2015، جمعهما تخصص الرياضيات وأسوار الجامعة، النزهات ثم انتسبت صديقتها لنفس العائلة وكانتا مثل أختين لمدة عام قبل أن تتزوج صابرين عام 2018، تصفها والدموع تتطاير من عينيها "هي صديقتي وروحي".

 يثقل الحزن صوتها: "منذ أربع سنوات لا أذكر أنه مر يوم ولم نتحدث كل يوم عبر تطبيق ماسنجر وكنا نمضي أكثر من ساعتين في الحديث عن تفاصيل حياتنا وأسرارنا، وكانت لا تأتي لزيارة عائلتها إلا عندما أكون متواجدة".

جمعت ظروف الحرب الصديقتين، تتابع "كنا نسهر معًا، حتى أنها ورغم سكنها في رفح لم تكن تخرج من بيتها، وعندما نزلنا للسوق في يوم تفاجأت من حجم النازحين".

تحلق مع الذكريات التي توقفت عند يوم زفافها، تغلبها دموعها التي حاولت مواراتها عن عيون زائري الحضانة "يوم فرحي كانت أكثر إنسانة وقفت بجانبي، خططنا لعمل الفقرات، ويوم فرحها خططنا معا".

قبل يومين من استشهادها، زارت صابرين عائلتها التي نزحت إلى خيمة مستقلة عن منزل ابنتها بعد خمسة أشهر من التواجد عندها، لا زالت ابتسامتها الأخيرة التي انتزعتها من أيام الحرب حاضرة أمام صديقتها: "جلسنا معًا وتحدثنا عن الحرب والحياة في الخيمة، وجاءت للاطمئنان على وضع عائلتها".

"خايفة أصير أشلاء" مضت ثوان معدودة تاهت صديقتها في دهاليز الذكريات، اختلطت فيها مشاهد الآلام بالأمل وهي تستحضر كلمات صابرين كانت تمني النفس أن لا يعثروا عليها أشلاء "تخيل أنها كانت تتمنى أن يجدوها كاملة حتى تودعها عائلتها. والحمد لله عثرنا عليها بجسد كامل".

خرجت الرضيعة صابرين من تحت الردم وهي ببطن أمها، وولدت قبل استشهاد أمها بعشر دقائق، وصفها الأطباء بأنها "الطفلة المعجزة" فلم ينجُ أحد من الصاروخ القاتل إلا أضعف كائن بالبيت، حمتها أمها بجسدها الضعيف من الشظايا والحجارة والركام الذي تساقط على أمها، فكانت في "أكثر الأماكن أمنًا" رغم قربها من الموت.

المصدر / فلسطين أون لاين