بملامح تعلوها الصدمة، تقف الخمسينية أحلام زعرب على ركام منزلها المدمر وسط محافظة خان يونس، تواسيها ابنتها في مصابها الجلل، تذرف دموع قهرها على أنقاض ذكريات وعمر طويل أمضته فيه، وأصبح كومة من الركام والحطام.
بنظرةٍ رافقتها دموع الحسرة على حال المنزل، جلست على حطام البيت تبكي فقدها وترثي نفسها، ولم تطل المكوث في المكان إذ تحركت للبحث عن ابنها المفقود "رأفت" عندما جاء إلى المنطقة برفقة قريب لهم قبل انسحاب جيش الاحتلال من المحافظة وكانا يحاولان جلب "كيس طحين" فاستهدفا بصاروخ من طائرة إسرائيلية بدون طيار، نجى القريب وبقي ابنها مفقودًا.
"النار بقلبي بتوّلع. بدي أشوفه عايش ولالا" من عينين محمرتين وقلب مكلوم تدفقت تلك الكلمات التي تبللت بالدموع، وأضافت من أمام ركام منزلها وهي توسع نظرها على المكان المدمر: "المدينة أصبحت مدينة أشباح. صدمت عندما شاهدت منزلي مدمرا، وقبل قصفه كنت آتي إلى هنا بين فترة وأخرى لأخذ بعض الأغراض والطائرات فوقنا نعيش في رعبٍ".
"للمرة الأولى أنزل على حارتي بمدينة خان يونس، صدمت من المشهد الذي رأيته من حجم الدمار الهائل، آلة الحرب لم تترك أي شيء لم تحصد، للأسف لا يوجد قانون دولي ولا حقوق إنسان يمنعهم من ارتكاب الجرائم" يقول محمد النجار وهو يقف بين حطام منزله الذي لم يعرفه وحطام حارته التي مسحت عن بكرة أبيها ظلت فيها ذكريات طفولته.
من فوق ركام منزله، يؤكد بنبرة ممزوجة بالرضا والصبر "باقون ولن نرحل ولو كان العيش على ركام بيوتنا".
نظرة وداع
على امتداد بصرك في منطقة وسط مدينة خان يونس ترى الشوارع مدمرة والبيوت قد مسحت عن بكرة آبيها، أينما يجول نظرك لا تجد إلا دمارا واسعا، المواطنون أصابهم حالة من الصدمة عندما شاهدوا منازلهم مدمرة، فبكوا على أطلال الذكريات، وكأنها نظرة وداع سرعان ما غادروا المنطقة مؤكدين أنهم سيعودون للعيش على ظلال هذه البيوت حتى ولو بخيمة ولن يتركوها أو يتخلوا عنها رغم حجم الدمار الواسع والهائل الذي يشاهدوه وبالكاد استطاعوا التعرف عليها.
تتقدم للأمام فترى أبنية محترقة وأخرى مهدمة على جانبي الطرق، وبنية تحتية مدمرة وشوارع جرفت أرصفتها الاسفلتية تملؤها حفر عميقة بفعل القصف والتجريف والتدمير من طائرات وآليات جيش الاحتلال، كأنك تسير بمدينة أشباح إلا من أعداد ليست كبيرة من الناس الذين جاؤوا لتفقد منازلهم ولأخذ بعض الأغراض الضرورية وغادروا تلك المناطق، يغلب صوت الطيور التي سكنت المنازل بعد رحيل سكانها، والكلاب التي تجول بالشوارع الفارغة.
"كنا نزين البيت بالعيد والآن كل شيء تدمر. الاحتلال حرمنا من أبسط حقوقنا بأن نفرح بالعيد" بغصة تعلق في حلقه يقول أحمد شبير الذي جاء برفقة زوجته محاولا الحصول على بعض الأغراض.
يسكن شبير في شقة سكنية بعمارة مكونة من أربعة طوابق، تساقطت حجارة كل جدران الواجهة المطلة على الطريق، وبقيت بيوتهم مكشوفة تلمح أثاث المنازل وأمتعتهم التي تطايرت بعضها في الطريق، بالداخل أصبحت غرفته المطلة على الطريقة مكشوفة.
تدمرت معظم أجزاء المنزل وبقيت صالة استقبال الضيوف شاهدة على ذكريات جميلة كانت تعج بالحياة وقت العيد يتحسر عليها شبير الآن قائلا: "كنا هنا نستقبل الضيوف، ونزينه في العيد ويرتدي أطفالي الملابس الجديدة، والآن كل شيء تدمر" قالها وهو ينظر من فتحة كبيرة بجدار غرفته تطل على دمار أوسع طال المنطقة بأسرها.
في منطقة "عمارة جاسر" وهي معلم معروف بالمدينة يمتد فيها شارع "البحر" الممتلئ بالمواطنين في كل الأوقات، ويزداد بهجة في مواسم العيد بسبب اكتظاظ الناس والمحال التجارية التي تفتح أبوابها.
بحرقة تقفز صور من الماضي أمام خالد الجلوس الذي كان يقف أمام العمارة وينظر بصدمة للدمار مستذكرًا كيف كان مكتظًا بالأعوام السابقة، يقول: "عندما علمنا أن جيش الاحتلال انسحب جئنا إلى هنا لمعاينة الدمار، مؤلم مشاهد الدمار التي تراها أمامك".
ينظر إلى الطريق المجرف أمامه وقد أصبح ساحة رمال وكأنه يقف في صحراء، يربط بين الصورتين: "كانت الناس في الأعوام الماضية تمشي هنا ويمتلئ الشارع بالناس والمحال تتزين وتفتح أبوابها والجميع تراه سعيدا، اليوم الحال يبكي فلا ترى شوارع أو بيوت بسبب الدمار الكبير".
لم يطل الدمار البيوت على جانبي الشوارع الرئيسية في المدينة، بل امتد للشوارع الفرعية، ولكافة المنشآت الثقافية والرياضية والصحية والتعليمية، ترى ملعب شباب خان يونس المجار لمجمع ناصر الطبي الذي كان يحتضن المباريات الرياضية وقد حولته الآليات الإسرائيلية لساحة فارغة وكومة من الركام، ترى آثار جنازيرها التي كانت تصول وتجول في المكان الذي تحول لساحة اعتقال وبقيت المدرجات شاهدة على جريمة إسرائيلية بحق الرياضية الفلسطينية وعلى تاريخ حافل من عمر الرياضية الفلسطنية.
تحمل ياسمين اللحام طفلها الرضيع الذي ولدته في الحرب، وجاءت هي وشقيقتها لمعاينة بيتهم المدمر، لا تصدق ما تراه عينيها وهي تقف في منتصف الطريق وتقول: "كأنك لا ترى بيوتا".
الطريق الذي تعبره اللحام الآن، هو ذات الطريق الذي مرت به أثناء ولادتها بين جنحي الظلام في 19 ديسمبر/ كانون أول 2023، لا زالت تذكر تلك الليلة "كانت لحظات صعبة عشنا في خوف كبير وعدت من مستشفى "الخير" مشيا على الأقدام".
لم تسلم سيارات الدفاع المدني من القصف الإسرائيلي، فرغم أنها مكفولة في القانون الدولي لكنه لم يحمها من القصف، يظهر سيارتا دفاع مدني مدمرتين وأخرجتا عن الخدمة وركنتا بإحدى المدارس.
مجمع ناصر
بمحيط دمار كبير، بقي مجمع ناصر الطبي شاهدًا على جريمة نالت من القطاع الصحي، عندما حاصره جيش الاحتلال وقصف بعض الأقسام واقتحمه واعتقل الأطباء وأعدم نازحين ومرضى، ونبش مقبرة داخل المشفى وقام بسرقة جثامين شهداء وأخرج المشفى عن الخدمة.
بلا حركة ولا صوت، هكذا كان الحال داخل المشفى لحظة وصولنا، بعد المدخل الرئيسي من البوابة الشمالية تستقبلك عشرات القطط التي بقيت في المكان وتركها الاحتلال تنهش جثامين الشهداء بعد منع دفنهم، ترى سيارات محطمة، وواجهات زجاجية مكسرة، داخل قسم الطوارئ الذي قيد فيه جنود الاحتلال الأطباء ترى زجاجا محطما، وأجهزة طبية تعرضت للتخريب.
في الساحة الخلفية للمجمع يظهر آثار تجريف الاحتلال للساحة، في المشهد ترى أبنية إدارية تعرضت للقصف، وساحة خلفية جرفتها جرافات الاحتلال، وسيارتي إسعاف مدمرتين، أحرق جنود جيش الاحتلال منبى غسيل "الكلى"، وكلها بقيت شاهدة على جرائم الاحتلال بحق القطاع الصحي.
في المقبرة التي أنشأها المرضى والنازحون لدفن الشهداء والموتى خلال "حرب الإبادة"، وبعد 45 يوما من البحث عثر الشاب خالد أبو سحلول على جثة والده الحاج "رمزي" الذي أعدمه جيش الاحتلال قبل نحو شهرين ونصف وقامت العائلة بدفنه في المقبرة، وتفاجأت بقيام الاحتلال بسرقة الجثمان وإعادته لمكان آخر بعدما قامت بالتلاعب بالجثمان أو بسرقة أعضاء منه.
من الساعة السادسة صباحا تواجد أبو سحلول هنا، بمساعدة صديقه طارق الكولك، وقاموا بالحفر والبحث عن جثمان والده حتى تمكنوا من العثور عليه وتعرفوا على الجثمان من خلال علامة في صدره.
يعرض الكولك أدلة على سرقة الاحتلال للجثامين منها، نبش القبور، وتغيير الأكفان بحيث كتبت كلمات باللغة العبرية على الجثامين، فضلا عن خلع ملابس الشهداء بخلاف الحال الذي دفنتهم عائلاتهم عليه.
يرتدي الكولك قفازات وكمامة أمام الجثامين المتحللة، وبالقرب منه يجلس خالد أبو سحلول وشقيقه يتكئ كل منهما على صدر الآخر لم يستطيعا الكلام بسبب قسوة الموقف فناب صديقهم الحديث عنهما.
يقول من أمام القبر عن تمكنهم من العثور عليه: "قمنا بالحفر من خلال علامة كتبناها على الجدار، وهذه العلامة أرشدتنا إلى مكان إيجاد القبر".
في الطريق المتجه من الحي النمساوي بالمحافظة، كان الشاب أحمد صادق يجر كروسته المتحركة بقدم مبتورة وأخرى مليئة بالجروح ومثبت العظام (بلالتين) بعد تعرضه لإصابة إثر قصف إسرائيلي استهدفه هو واثنين من المواطنين.
يروي صادق ما حدث معه قائلا: "كنت جالسا على باب المنزل فتعرضنا للقصف، والآن عدت من مراجعة طبية حيث حدد لي الأطباء عملية جراحية بعد عيد الفطر".
ظلت بيوت محافظة خان يونس شاهدة على آثار حرب إبادة جماعية حولتها إلى مدينة "أشباح" تخلو من أهلها وسكانها الذين أعمروها عبر قرون طويلة، طال الدمار أجزاء واسعة من المدينة، وظلت شاهدة على ملامح وقصص بطولية سطرتها المقاومة وهي تتصدى لآليات الاحتلال المتوغلة ففي كل مكان وحارة وشارع كانت المقاومة تدافع ببسالة بينما كانت الطائرات تسقط الصواريخ.
