فلسطين أون لاين

​لن يستطيعوا طمس ما تركت فينا

للفلسطينية حكاية تختلف عن جميع نساء العالم. كانت جدتي تقول: "أم البنات تعدُّ نفسها للذهاب للصَّاغة لشراء الذهب لهن، وأم الصبيان تعدُّ نفسها لمطاردات الاحتلال واستقبال الشهداء، ومكابدة مشاق زيارات المعتقلات". ولكن بعد أن كبُرت وجدت هذه العبارة ليست دقيقة. فكثير من فتيات فلسطين يواجهن المحتل ويعتقلن كما الشبان تماماً.. برغم أن عمليات المقاومة التي تزلزل الاحتلال وتفت بعضدهم وتربكهم لا يقوم بها إلا الشبان. في فلسطين الجميع يقاومون، حتى الأطفال وكبار السن، كلٌ يقاوم بما يمتلك من قدرات وإمكانيات. فثرى فلسطين وعيون القدس تستحق الدماء والأرواح التي تراق لأجلها. عسى الله يرضى، وفلسطين تعود.

اعتدت الحياة مع أبنائي وحيدة بعد استشهاد زوجي، وأكملت الدرب الشاقَّ معهم. كبر الصغار، وغدو شبَّاناً وشابات، منهم من تزوج ومنهم من لا يزال يدرس في الجامعات ومنهم من يحضِّر نفسه للزواج. أصغرهم أحمد الذي مضى يعمل في التجارة، يساعد إخوانه في إكمال تعليمهم، والتأسيس لأنفسهم، وعندما أسأله: وأنت متى ستؤسس بيتك الخاص؟ يقول: أنا سأبقى معك هنا.. لن أغادر هذه الدَّار إلا إلى الجنة.

كنت أضحك منه وأقول: تريد أن تبقى المدلل عند أمك، أليس كذلك؟.

فيضحك قائلاً: ليس لي بركة سواكِ يا ست الحبايب.

أحمد هادئ الطبع، كثير الصمت قليل الكلام، حنون، طيب القلب، شهم، شجاع، عزيز النفس، شديد القرب من ربه، يستيقظ في جوف الليل، يصلي ركعات طِوال يطيل سجودها والدعاء فيها، يرتل القرآن بصوت شجي باكي كان يبكيني. عوضني ربي به، فهو صورة عن والده الشهيد في جميع سماته. الشيء الوحيد الذي يختلف فيه عن والده أنه لا يتكلم في السياسة نهائياً، لدرجة أنني لم أكد ألحظ تأييده لفصيل سياسي بعينه بشكل واضح، يتظاهر وكأنه مجرد ميل لا أكثر، يصب اهتمامه على عمله وتجارته بشكل كبير.

بدأت الحكاية التي قلبت الحال رأساً على عقبت عندما حاصرت قوات كبيرة من جيش الاحتلال الغاصب بيتنا، وأمرونا بالخروج عبر مكبرات الصوت، ثم راحوا يهدمونه بالصواريخ التي أطلقوها والجرافات، وهم يشتمونني ويسألونني عن أحمد. أخبرتهم أن أحمد ليس في البيت، ولكن أصرُّوا على تكذيبي مدُّعين أنه في الداخل ويرفض الخروج. وأخبروني أيضاً أن أحمد ابني قام بعملية عسكرية قتل فيها مستوطن ذي رتبة دينية كبيرة. هدموا البيت، ونجا أحمد، وقُتل ابن أخ زوجي في هذه العملية.

لم أكن أعلم أين أحمد، ولكني أدركت أنه بخير طالما هناك جيش جرار مدجج بالسلاح يجوب القرية وينبش تربة الجبل ويزيح حجارته، وكأن أحمد قشة سيختفي تحت حجر. ضحكت في نفسي: كم هم أنذال، شاب واحد يدوخ جيشاً، ويسخر من جبروتهم. قلبوا المنطقة بأكملها، لم يتركوا قرية ولا بيتاً ولا مغارة ولا مزرعة إلا وفتَّشوها دون جدوى. شهر كامل من المطاردة وقفوا عاجزين خلالها، وكأنهم يطاردون شبحاً أو سراب.

آه يا أحمد، يا روح أمك.. كنت مختبأً في فكرك حتى عني أنا، التي أعرفك أكثر مما أعرف نفسي.. اكتشفت بعد هذه السنوات أنني كنت أجهل عنك الكثير أيها البطل.. يا ابن أبيك، بتُّ الآن واثقة بأنك تشبهه في كل شيء وليس كما اعتقدت سابقاً، ولكن صمتك ضرب حولك جداراً من الغموض حار فيهم جميع من عرفوك.

كنت أعلم أنك في خطر، أنتظر في كل لحظة أن تزف إلى جنات العُلا، فالله يصدُق من صدَقه. ولم يطل الحال، ففي صبيحة يوم لم تطلُّ شمسه، وبدت سماؤه باهتة حزينة مكتئبة، أُشيع بأنك قد سقطت شهيداً، كنت أتعلق كالغريق بقشة، وأدعو ربي أن يكون الخبر كاذباً، ليس بغضاً بالشهادة، ولكن بغضاً أن تكون على أيديهم، فتغرُّهم أنفسهم، فيعتقدوا بأنهم قد انتصروا عليك.. ولكن.. ما إن مضت سويعات حتى أُكد الخبر، لقد أكرمك الله بما كنت تتمنى.. أحسست بجرح ينشق داخل صدري، ويدمي قلبي.. ليس حزناً، وإنما حباً وفخراً بك، فقد أنجبتُ بطلاً هزم جيشاً جراراً.. استشهدت بعد أن هزمتهم يا حبيب قلبي، فاستشهادك وسام فخار لك، وتاج وقار لنا، واستشهادك بعد شهر من المطاردة شهادة هزيمة لهم ودليل إثبات على نذالتهم وعجزهم..

أقسم بالله يا حبيب قلبي، أنه لولا العملاء الذي تطوعوا لينقلوا كل حركة وسكنة وشاردة وواردة للاحتلال، ما استطاعوا الوصول إليك. وما زادني فخراً بك أنك قاومتهم وقاتلتهم بما تمتلك من رصاص معدود، وعتاد بسيط، حتى آخر رصاصة في رشاشك، وآخر نَفَس في رئتيك، قبل أن يصبك رصاصهم الغادر في مقدمة رأسك، فترتقي عند ربك شهيداً مقبلاً غير مدبر.

رحمك الله يا أحمد، وأُشهِد الله أني راضية عنك داعية لك بالمغفرة والقبول، فإلى جنات الخلد، أستودعك الله الذي لا تغيب ودائعه.

إهداء إلى روح الشهيد أحمد جرار، وإلى أمه الصابرة الثابتة.