ضربةٌ قويةٌ تكفّل بها أحد أفراد شرطة الاحتلال، كسَر فيها فكّ زينة وكثيراً من أسنانِها، لتقع بعدها على الأرض فاقدةً للوعي، وتهبّ النساء في وجه المحتل مكبّرات، وهنّ اللواتي يحترفن التكبير "بعمق" قلوبهنّ، مستنداتٍ إلى أن "الله أكبر" تزرع الرّعب في قلوب المستوطنين.
كانت المقدسية زينة عمرو (54 عاماً) تقود مجموعةً من النساء داخل أروقة المسجد الأقصى، في جولةٍ تعريفيةٍ بتاريخه وأصوله ومكانته، وفي الوقت نفسه كان "الحاخامات" اليهود يقودون جولةً تعريفيةً مزيّفةً للحديث مع المستوطنين عن الهيكل المزعوم، وكالعادة إن قوات الشرطة لا تفارقهم، وتقدم لهم كل أساليب الحماية.
اشتعلت قلوب المقدسيات وغيرهنّ غيرةً على أولى القبلتين، واصطدمن بالمستوطنين واستفزازاتهم المتمثلة في مصطلحاتهم وحركاتهم حتى احتدم الفريقان، ونالت تلك الثائرة ما نالت.
زينة المولودة في مدينة الخليل، والمكناة بأم عمرو متخصصة في الدراسات المقدسية، ومؤسسة حلقات العلم في المسجد الأقصى، قدّمت وكثيرٌ من النساء الأقصى على أرواحهنّ وأزواجهنّ وأبنائهن.
يُلاحِقنَ المستوطنين
لقد كُنَّ أول من بدأ يكشف اعتداءات الاحتلال داخل المسجد الأقصى، بفضل حلقات العلم التي ينظمنَها ويمضينَ فيها ساعات طويلة، تروي زينة لـ"فلسطين": "لقد بتنا نلاحق المستوطنين حين يدخلون المسجد، ونكبّر في وجوههم، فيختبئ بعضهم خلف بعض، في مشهدٍ يفترض أنه مُخجِل لهم".
وتضيف: "لن يهنأ العدوّ ما دمنا في الأقصى نكبر ونهلل ونرابط، فوجود المستوطنين يعطي الفرصة للمحتل لفرض السيطرة على المسجد، بحجة حمايتهم، وهذا ما نرفضه ونمضي في إفشالِه".
لاحظ الاحتلال أن النساء حجر عثرةٍ أمام تنفيذ مشاريع التهويد، وأن وجودهنّ يفشل مخططاتهم للاستمرار في التهويد بأريحية، فبدأ التشديد عليهنّ واضحاً، توضح: "لم نعد ندخل المسجد الأقصى إلا بعد تدقيق وفحص دقيق للبطاقات الشخصية، إلى جانب التصوير الذي ينتهجه الاحتلال، فيركز المصور كاميرته على المرأة بأسلوب استفزازي، لإرباكها وحفظ صورتها، إذا ما فكّرت في القيام بعملٍ يستفز المحتل، فضلًا عن الضرب المبرح ونزع الحجاب".
لقد لوحقت زينة في أزقة البلدة القديمة، وهُدّدت بهدم بيتِها، واعتُقِل أولادها وزوجُها، ومُنِعت من السفر إلى أي مكان، وأخيراً أبعدت عن المسجد الأقصى.
تعلّق: "لم أذرف دمعةً عندما ضربوني واعتقلوني وكسروا رجلي وفكي وأسناني، لكنني ذرفت دموع الشوق والحزن والألم على إبعادي، فأن تسمع الأذان يصدح داخل المسجد الأقصى، ولا تقدر على تلبية النداء أمرٌ لا يشعر به إلا من تربّى في حارات القدس".
ولأجل ذلك تتخفّى زينة تارةً بالنقاب وأخرى بالنظارة الشمسية وغيرها، علّ عيون العدوّ تعمى عن التعرف إليها ومنعها من الدخول إلى المسجد.
ثورة
مقدسيةٌ أخرى في كل ناحيةٍ من جسدِها ثورةٌ تكاد تنفجر في وجه كلّ مستوطنٍ وجندي صهيونيين خطّت أقدامهما المسجد الأقصى، تترك بيتَها وأبناءها الخمسة لتواصل رباطَها اليوميّ على مداخل المسجد، وتحديداً عند أول الرواق المؤدي إلى باب السلسلة، وذلك بعد أن أبعدها الجنود أربع مراتٍ، ولا تزال، إذ لم يعد هناك جندي إلا ويعرف من هي خديجة خويص.
خديجة (39 عاماً) تربَّت على حبّ الأقصى والتضحية بالغالي والنفيس لأجلِه، ولذلك تركت وظيفتها الحكومية في التربية والتعليم، لتعمل معلِّمة متطوّعة في المسجد الأقصى، تقول: "وجدتُ أن العمر يضيع في العمل العادي، في حين أن المسجد الأقصى بحاجة لمن يقف معه ويضحي لأجلِه، فقررت أن أكون معلمة فيه، فهو على وفق رؤيتي سكني وبيتي الأول، وأشعر به جزءًا من عقيدتي، أما بيتي الثاني فهو الذي أسكن فيه برفقة زوجي وأولادي الذين تربوا كذلك على حبّه".
يقتنصون الفرص لاقتحامه
وتتربّع خديجة على باب السلسلة بهدف إغاظة جنود الاحتلال والمستوطنين، الذين يكونون قد دخلوا المسجد الأقصى من باب المغاربة، فتجدهم يُستفَزُّون بمجرّد رؤيتها مُرابطةً هناك، ما يدفع بعضًا إلى القيام بردودِ أفعالٍ قبيحة، كالشتم والسبّ والتلفظ بألفاظٍ قبيحةٍ لا أخلاقية، وفي بعض الأحيان قد يتعرض لها المستوطنون بالضرب، وفي ذات مرة ألقى أحدُهم إبريق الشاي عليها بكل حقدٍ، لكن رحمة الله حالت دون أن تتأذَّى، حسب قولها.
بصوتٍ بحَّته التكبيرات تقول خديجة المبعدة عن الأقصى والممنوعة من دخوله: "هذا أقلّ واجبٍ يمكن أن أقوم به تجاه المسجد الأقصى، وما زلت أشعر بالتقصير تجاهه، فالمستوطنون يقتنصون كل لحظةٍ يخلو فيها المسجد من المقدسيين كي يقتحموه بهدف تقسيمه مكانيّاً وزمانيّاً، لذلك أنا لن أتركهم يسرحون فيه ويمرحون ليحولوه إلى خماراتٍ وبارات، سأرابط على أبوابِه، وأشكِّل حلقات العلم والقرآن والتفسير في باحاتِه وساحاتِه التي أستطيع أتمكّن الوصول إليها بعد إبعادي، وإن سجنت من جديد".
سجن وغرامات
وكانت خديجة قد اعتُقِلت مرات عديدة وسُجِنت مرات كثيرة، تارةً لأجل التكبيرات التي تطلقها في وجوه المستوطنين وأخرى لأجل فضّها الاقتحامات الصهيونية، ولم تخرج حينها إلا بدفع غرامات مالية باهظة، لكنها تقول: "لن أكلّ أو أملّ من القيام بواجبي".
وتضيف: "أشعر بحزنٍ شديد حين أجد أننا وحيدون في مناصرة الأقصى والدفاع عنه؛ فالمسجد الأقصى ليس للمقدسيين والمقدسيات فقط، هو للمسلمين جميعاً، ولا يجوز أن يبقى الفلسطينيون وحدهم من يدافعون عنه، وإن كان في ذلك شرفٌ كبير لنا، فإنه يشعرني بالحزن الشديد، وفي الوقت نفسه يقوي عزيمتي للاستمرار في رباطي، مهما لاقيت من الإهانات والتَّعدِّيات".
وتُقلَب المقلوبة
لكن خديجة تأسف وتستنكر على بعض أن اتّخذ كلمة "وما زالت المقلوبة تُقلَب" عنواناً في معرض الذّم لا المدح للمرابطات في المسجد الأقصى، أولئك اللواتي يقلبن "أرز المقلوبة" عند بوابات المسجد، وقد يزاحمن الشباب، وقد يُضربْن ويسقطنّ أرضاً، ويهملن بيوتهن وأبناءهنّ، هذا إضافة إلى التشكيك في النوايا والقدح في الإخلاص، وترد عليهم: "لا مانع شرعي من خروج المرأة، أمّا الهتافات التي يطلقنها فصوت المرأة هنا ثورة تقلق أعداء الله وتقضّ مضاجعهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لما عدوا التكبير تهمة، خاصة أن كلًّا يخرجن بحجاب محتشماتٍ دون زينة".
وتتساءل: "عجباً لأولئك يسمحون لأنفسهم ولنسائهم بالخروج إلى الأسواق المكتظة بالرجال والنساء، ثم يعيبون علينا الاعتصام!".
وتقول: "أما الصور والتصريح للقنوات والنشر على (فيس) فكلها منابر نصدح بها نصرة للقدس والأقصى، ولو بصورة أو كلمة، ووسيلة لتوصيل صوت القضية والحشد لنصرتها في كل أصقاع الأرض، أما النية فهي بيننا وبين الله، ولا يملك معرفتها سوى الله جل شأنه".
أين الرجال؟!
أما القائل: "أين الرجال؟!" فتردّ عليه: "ليسأل كلّ واحد من الرجال هذا السؤال لنفسه، أينك أنت؟!، وأين ابنك وأخوك وزوجك؟!، اطلبوا منهم أن يأتوا الأقصى ليكفونا مؤونة ومشقة الاعتصام والضرب والاعتقال".
وعن أبناء المرابطات تعبر بالقول:" أمّهم ذهبت بهم إلى الأقصى وزرعت حبّه في قلوبهم وعلمتهم أن الدّفاع عنه واجب وأن دونه المال والنفس والروح، ولم تكتف بالنظريات والمواعظ والدروس والكلام فحسب، وبذلك انغرست عقيدة الأقصى والقدس والدفاع عنهما في قلوبهم، وليس من يرّبي بالدروس والمواعظ كمن يربّي بالقدوة والعمل".

