فلسطين أون لاين

"حماك الله يا أقصى.. قولوا آمين"

​بهذه العبارة يختم الشيخ صبري كل خطبه على منبر صلاح الدين!

...
الشيخ عكرمة صبري
القدس المحتلة-قلقيلية/ مصطفى صبري

لا يفضل الحديث عن نفسه إلا وقد ارتبط اسمه بـ"الأقصى"، بعمامته البيضاء، وعباءته الطويلة، يرتقي صاحب الأعوام السبعة والثمانين كل جمعة منبر "صلاح الدين الأيوبي"، الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1168م، يبدأ خطبته باسم الله والصلاة على نبيه الكريم، يمضي في خطبته فاصلًا بين الفقرة والأخرى بنداءٍ لجمهور المصلين يحمل رسالةً يفهمها كل من عايشه خطيبًا هنا: "يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يا أهل هذا المسجد"، يأبى أن يختم الخطبة قبل أن ينادي بهم مرةً أخيرة: "الأخطار محدقة بمسجدكم، والاحتلال لا يعدم الوسيلة، ونحن من هذه البقعة الشريفة نعلن مجددًا للقاصي والداني أن الأقصى وقفٌ خاصٌّ بالمسلمين وحدهم، بقرارٍ رباني إلهي، لا هو قرار محكمة ولا قرار ساسة"، ثم يختم بالآية الكريمة: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، رافعًا صوته بالدعاء طالبًا بعده التأمين: "حماك الله يا أقصى".

هو من مواليد عام 1939م في قلقيلية، وخطيب المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1974م، ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس منذ عام 1987م، ورئيس هيئة علماء ودعاة بيت المقدس – فلسطين، الشيخ "عكرمة صبري" في حوارٍ خاص مع "فلسطين":

تفاصيل البدايات

بدأت حكاية الشيخ صبري مع القدس، عندما انتقل والده الشيخ سعيد إلى العمل فيها قاضيًا شرعيًّا وخطيبًا للمسجد الأقصى، ما سهّل أمر التحاقه بالمدرسة الرشيدية التي تقع خلف مبنى البريد بالقرب من باب الزاهرة.

كان لتلك المدرسة طابعها الخاص المختلف عن الطابع العام لأي مدرسةٍ أخرى في أي مكانٍ في العالم، فمقرها مدينةٌ مقدسة، ومكانها قريبٌ من المسجد المبارك، ما كان يدفع الطلبة إلى زيارته والصلاة فيه يوميًّا بمجرد انتهاء الدوام.

يقول د. عكرمة: "بعد انتهاء مرحلة التوجيهي انتقلت إلى جامعة بغداد في العراق، ودرست الشريعة الإسلامية، كانت مرحلةً صعبةً جدًّا علي؛ فأنا لا أطيق أبدًا فكرة البعد عن الأقصى، كيف أبتعد وأنا الذي أمضيت سنوات المدرسة أعانق أرضه مع كل سجودٍ؟!، عدتُ وعملتُ مدرسًا في مدارس القدس الشرعية، وبدأت بالتنكزية".

عند هذه الكلمة تنهّد الشيخ عكرمة كمن أصابته غصة، وأسهب يتذكر: "المدرسة التنكزية القريبة من باب السلسلة بنيت في زمن المماليك، فأخذ طراز بنائها شكلًا غايةً في الروعة، كنت فيها مدرّسًا، ولكن بعد احتلال شرقي القدس عام 1967م لم يتبق من هيئتها التدريسية غيري، فالباقون كانوا يتبعون للأردن، ورحلوا عنها إلى بلادهم".

يبين الشيخ أن طلابًا كانوا يأتون للالتحاق بالمدرسة التنكزية من معظم الدول العربية، وكان الطابق الثاني سكنًا لهم، حتى لم يعد يزورها أحد بعد الاحتلال، وبعد زيارة وزير الحرب موشيه ديان إليها، واستطلاع موقعها الذي يطل من الجهة الجنوبية على حائط البراق، ومن الناحية الشرقية على ساحات المسجد الأقصى، حدثت عملية وصفها بـ"المفبركة"، إذ وضعت بالقرب منها "قنبلة"، فكانت بذلك ذريعة للاستيلاء عليها.

يضيف: "هي الآن مركزًا للشرطة الإسرائيلية، مع أن فيها محرابًا وغرف دراسية واسعة ومصلى وفسيفساء في غاية الجمال".

الشيخ المعلم

عاشق التدريس الشيخ عكرمة عُيّن معلمًا في مدارس الأقصى في شهر أيلول من عام 1963م، فكان صديقًا لطلابه مدربًا رياضيًّا لهم، يشاركهم في كتابة المسرحيات والنصوص وكل النشاطات غير المنهجية حتى عام 1974م، إذ انتقل إلى وزارة الأوقاف مديرًا عامًّا للوعظ والإرشاد، حتى توفي والده، فعين خطيبًا للمسجد الأقصى بعد "مسابقةٍ شارك فيها 21 متسابقًا".

يعلق صبري: "خلال عملي في وظيفة الوعظ والإرشاد ساهمت في إنشاء قسم خاص بالواعظات النساء، وعين فيه أكثر من 70 واعظة، مسئولات عن مساعدة النساء وتعليمهن أمور دينهن، كون النساء أقرب إلى فهم النساء".

ولما صار خطيبًا للأقصى، أي قبل ما يزيد على أربعة عقود؛ مر على الشيخ حدثٌ لا ينساه، إذ كان عليه أن يخطب صبيحة أول أيام عيد الأضحى بوجود محمد أنور السادات ثالث رؤساء جمهورية مصر العربية، ويذكر ذلك اليوم بقوله: "لم أنم ليلتها وأنا أحضر ماذا سأقول، وقد توافد إلى منزلي مئات المقدسيين ليلتها، يذكرونني بعظم الأمانة الملقاة على عاتقي وأنا أتحدث عن فلسطين وحرمة المسجد الأقصى أمام الرئيس يومها".

ولا ينسى أبدًا تلك الليلة عندما حضر فريق من المخابرات المصرية والأمريكية والإسرائيلية إلى دائرة الأوقاف، كي يحصلوا على مضمون خطبة العيد قبل موعدها، وهو ما رفضه الشيخ حلمي المحتسب رﺋﻴﺲ اﻟﻬﻴﺌﺔ الإﺳﻼﻣﻴﺔ في اﻟﻘﺪس حينها قولًا واحدًا، مرددًا عبارة: "أرسل لبيبًا ولا توصه".

"تحولت صبيحة ذلك اليوم البلدة القديمة إلى أشبه بثكنة عسكرية، حتى أنا منعوني من التحرك نحو المسجد، لولا أن عرفوا أنني الخطيب" يكمل، متابعًا القول: "عندما اعتليت منبر صلاح الدين تضمنت خطبتي أهمية القدس والمسجد الأقصى، وأهمية تحريره والاهتمام به، وعقوبة من سيفرط بحمل أمانته"، يقول: "كان السادات يتصبب عرقًا طوال وقت الخطبة".

معايشة الانتهاكات

منذ أن تولى الشيخ عكرمة صبري الخطابة في المسجد الأقصى لم يغب ذكر المسجد عن خطبه، كيف لا وهو الذي يسيطر على عقله وروحه؟!، "بل إن كل ما أفكر فيه هو بذل المزيد من التضحية من أجله، لقد عايشت كل المؤامرات التي حيكت عليه: حادثة قبة الصخرة عام 1981م، ومذبحة الأقصى 1990م، واقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي المجرم أرئيل شارون لباحاته عام 2000م، واحترق قلبي يوم أضرم فيه المتطرف الإسرائيلي روهن عام 1969م النيران ليطمس معالم حضارتنا وتاريخنا وجذورنا" يعقب.

وها هو اليوم يشهد انتصار الإرادة الشعبية في مواجهة خطط التهويد الإسرائيلية بحقه، حين تقدم الصفوف خلال أحداث شهر تموز (يوليو) المنصرم، عندما حاول الاحتلال فرض حصار جديد على مرتادي المسجد بنشر البوابات الإلكترونية والكاميرات الذكية في أنحائه.

اليوم أيضًا يصرخ بعلو صوته: "القدس عاصمة فلسطين الأبية" ردًّا واحدًا قاطعًا جازمًا على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إياها عاصمةً للكيان العبري، ويكرر من جديد: "بقرارٍ إلهي عظيم".