مع اشتداد حرب الإبادة الجماعية، وازدياد حدة القصف، وتتابع الزلازل التي تهز غزة ليلا ونهارا، تحضر الكلمة في ميدان المعركة. الأدب لا يكتفي بوصف الدمار، بل يقف في وجه الرواية المحرفة ويمنح للحقيقة صوتها الإنساني، فالمقال، والتحليل، والرواية، والقصيدة، كلها أشكال مقاومة، تتحول إلى درع للذاكرة وسلاح للوعي.
في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا تتعلق المعركة بالقوة العسكرية فقط، بل بالسيطرة على الرواية، على من يحكي الحقيقة. وبينما يركز العالم على إحصاءات الشهداء والجرحى والأرقام، يبحث الأدب العربي عن صوته ليقول: نحن هنا، نكتب كي لا تنسى فلسطين.
في حواره مع صحيفة "فلسطين" يتحدث الدكتور مصطفى عطية جمعة، أستاذ الأدب العربي والنقد في مصر، عن الدور الحيوي للأدب العربي في زمن الحروب، وعن قدرة الكلمة على أن تواجه الرصاص وتنتصر على النسيان.
ويستعرض جمعة رؤيته حول موقع الأدب في ملحمة طوفان الأقصى، ودور الكتاب العرب في مقاومة التزييف الإعلامي، ويحلل أسباب تراجع الخطاب الثقافي العربي أمام صلابة الرواية الفلسطينية، متوقفا عند تجربة الأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله كنموذج لإبداع يقاوم الاحتلال بالوعي والكتابة.
الكلمة في ميدان الحرب
يقول جمعة، إن الأدب ليس زينة لغوية أو انفعالا عابرا، بل فعل وجودي مقاوم، يقف حيث تسقط السياسات وتتعثر الخطابات الرسمية. إنه الذاكرة التي تحفظ للإنسان مكانه بين الركام، والضمير الذي يكتب ضد الصمت وضد النسيان. فحين تنحرف البوصلة الإعلامية، ينهض الأدب ليعيد توجيهها نحو جوهر الحقيقة "فلسطين".
ويشير إلى ارتباط تاريخ الأدب العربي دوما بالمعركة ضد الاستعمار والاحتلال، وكانت فلسطين مركز هذا الوجدان الجمعي، منذ شعراء المقاومة الأوائل، من محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، ظل الأدب مرآة للجرح الفلسطيني، وصوتا للكرامة العربية التي لم تخمد تحت الركام.
لكن ما يثير الأسى أن هذا الصوت خفت في العقود الأخيرة، حين طغت نزعات الفردانية والاستهلاك، وغابت القضايا الكبرى عن المشهد الثقافي، فباتت القصيدة تكتب للجوائز، والرواية تصاغ لترويج الذات لا لتأريخ الوطن. ومع ذلك، يظل الأمل في عودة الكلمة إلى معناها المقاوم، وهو ما بدأ يتحقق في زمن طوفان الأقصى.
وينوه جمعة، إلى أن الحرب الأخيرة، شهدت تجدد الوعي الأدبي العربي، وبدأت الكتابات تسائل الواقع بجرأة، وتستعيد لغة المقاومة بعد طول غياب. لقد كشفت مأساة غزة عن وجه جديد للأدب: أدب لا يصف فقط، بل يحاكم ويقاوم، ويعيد إلى الخطاب العربي ملامحه الأصيلة التي شوهتها عقود من التهميش.
ويشدد الناقد المصري، على أن الأدب في الحروب لا يقاس بمدى ما يوثقه من وقائع، بل بما يزرعه من وعي. فالكلمة التي تقال في لحظة دم، قد تكون أشد أثرا من بيان سياسي أو خطاب حماسي. الكاتب الحقيقي هو من يجعل من الحبر خندقا، ومن السطر جدارا ضد السقوط.
يتابع الحديث، لقد أعادت الحرب على غزة ترتيب سلم القيم الأدبية، فصارت القصيدة التي تكتب في خيمة أو بين الأنقاض أكثر صدقا من ألف قصيدة فخمة تقال في المهرجانات. فالمعيار الأخلاقي للأدب اليوم هو انحيازه للإنسان، وللأرض، وللحقيقة، لا لما تمليه المؤسسات أو تحدده الجوائز.
طوفان الأقصى فتح جرح الذاكرة
يقول جمعة، إن ملحمة "طوفان الأقصى" لم تكن حدثا سياسيا فحسب، بل صدمة ثقافية أعادت فتح جرح الذاكرة العربية، فدفعت الكتاب والمبدعين إلى مراجعة دورهم ومسؤوليتهم التاريخية. وكأن الكلمة عادت تتوضأ بالدم، لتستعيد طهرها الأول حين كانت تكتب من قلب المعاناة لا من مكاتب مكيفة.
ويؤكد جمعة أن الأدب الفلسطيني والعربي اليوم أمام امتحان جديد: إما أن يكون صوتا للحق، أو صدى للخطابات المستهلكة. فالمطلوب ليس تكرار الشعارات، بل إنتاج سردية إنسانية تعري المحتل وتظهر مأساة غزة كما هي، دون تجميل أو مبالغة.
ويشير إلى أن الكتابة عن فلسطين لا تحتاج إلى تصريح من أحد، فهي تكليف أخلاقي قبل أن تكون خيارا إبداعيا. فالقضية ليست مجرد مادة أدبية، بل روح الأمة التي إن خمدت فيها الكلمة، مات فيها الضمير.
إبداع يقاوم النسيان
ما يميز الأدب المقاوم في هذه المرحلة، كما يوضح الدكتور جمعة، هو تداخله مع وسائل التواصل الحديثة، حيث بات الشعراء والكتاب يستخدمون المنصات الرقمية لتوثيق الألم والمقاومة، في مواجهة آلة الدعاية الصهيونية التي تسعى لاحتكار السرد. إنها معركة الرواية بين من يملك القوة ومن يملك الحقيقة.
لقد أثبتت التجربة أن الأدب حين يتماهى مع الوجدان الشعبي، يكتسب قوته الحقيقية. نرى اليوم نصوصا تكتبها أمهات الشهداء، وشعرا ينشره طلاب جامعيون من قلب الدمار، ورسائل قصيرة تكتب بدموع الناجين. تلك هي جوهر المقاومة الأدبية الحديثة.
ويذهب جمعة إلى أن الأدب في فلسطين ليس فنا فحسب، بل حياة بأكملها. هو إعادة بناء للذات تحت القصف، وكتابة التاريخ بيد من يحترق به. من يقرأ شعر غزة اليوم يدرك أن القصيدة تحولت إلى وثيقة إنسانية، وأن كل بيت شعر هو شهادة ميلاد جديدة لفلسطين.
إبراهيم نصر الله.. الذاكرة المتجذرة
ويمتد حديث الدكتور جمعة إلى تجربة الأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، بوصفها أحد أنقى التجليات الإبداعية للهوية الفلسطينية في الأدب المعاصر. يقول: لقد استطاع نصر الله أن يحول المأساة الفلسطينية إلى مشروع سردي شامل، يكتب التاريخ بالخيال، ويستعيد الأرض بالكلمة.
نصر الله – كما يراه جمعة – جسد في "الملهاة الفلسطينية" و"ثلاثية الأجراس" و"أرواح كليمنجارو" صورة فلسطين المتعددة: الإنسان، والمكان، والذاكرة، والجرح. جمع بين الوثيقة والرؤيا، وبين الشعرية والواقعية، ليبني ذاكرة روائية تتحدى النسيان.
يضيف جمعة، أن نصر الله أسقط بمشروعه الأدبي مقولة ديفيد بن غوريون "الكبار يموتون والصغار ينسون"، فالأجيال الجديدة لم تنس، بل كتبت ما لم يستطع الكبار قوله. لقد تحول الوعي الجمعي الفلسطيني إلى طاقة إبداعية لا تنطفئ.
ويشير إلى أن روايات نصر الله لا تكتفي بسرد الألم، بل تحتفي بالحياة والمقاومة. فهي أدب الأمل لا أدب الانكسار. في روايته "أرواح كليمنجارو"، يصعد المعاقون الفلسطينيون إلى قمة الجبل ليعلنوا أن الجسد قد يصاب، لكن الروح لا تقهر. إنها استعارة النهوض من تحت الركام.
من خلال هذه التجربة، يرى د. مصطفى جمعة أن الأدب الفلسطيني يبرهن على أن الهوية ليست شعارا، بل مشروع كتابة متواصل، وأن الرواية يمكن أن تكون خندقا آخر في معركة الوعي، تخلد أسماء الشهداء وتؤرخ للحظات البطولة والخذلان معا.
الخطاب السلبي وسقوط البوصلة
لكن في مقابل هذا الوهج الإبداعي، يتوقف الدكتور مصطفى جمعة عند ما يسميه "الخطاب السلبي" الذي رافق القضية الفلسطينية في المنصات الإعلامية والثقافية العربية بعد طوفان الأقصى.
يقول جمعة: لقد انكشف زيف كثير من المثقفين، وتبدت ازدواجية مواقفهم، فراح بعضهم يهاجم المقاومة ويبرر العدوان.
يأسف لأن الخطاب الثقافي العربي بات متواطئا مع الخوف أو المصلحة، فبعض الليبراليين العرب – كما يصف – اصطفوا مع الأنظمة المطبعة، متذرعين بالشرعية الدولية أو "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بينما غابت عنهم شرعية الإنسان وحقه في الحياة والحرية.
أما معظم التيارات اليسارية، فصمتت لأن المقاومة الإسلامية لا تنتمي إلى مرجعياتها الفكرية. هكذا تحولت الأيديولوجيا إلى قيد على الموقف الإنساني، وغابت فلسطين عن بياناتهم إلا من شعارات باهتة لا تسمن ولا تغني.
يقول جمعة بأسف واضح، لقد خسر المثقف العربي اختبار فلسطين، فبينما تكتب غزة بدمها روايتها الحقيقية، يكتب بعض المثقفين مقالاتهم بأحبار باردة، متناسية أن الكلمة موقف، وأن الصمت خيانة.
ويضيف أن الخطاب العربي الرسمي والإعلامي انحرف عن جوهر القضية، فصور المقاومة كعبء، وتغافل عن الاحتلال بوصفه أصل المأساة. حتى صار بعض الإعلاميين يتحدثون عن "حرب بين طرفين"، وكأن الضحية والجلاد يقفان على أرض واحدة من الأخلاق والعدالة.
ويرى أن ما يكتب في بعض الوسائل والمنصات لم يعد مجرد رأي، بل مشاركة في تضليل الوعي العربي. فبدلا من تفكيك السردية الصهيونية، بات بعض الكتاب يكررونها بوعي أو بغير وعي، فيتحول الخطاب الثقافي إلى أداة لتبرير الاحتلال بدلا من مقاومته.
ويؤكد أن الأدب الحقيقي وحده من يصحح البوصلة، لأنه لا يخاطب السلطة ولا يرضخ لتمويل، بل ينحاز إلى الإنسان والأرض والكرامة. فمستقبل الكتابة العربية عن فلسطين يجب أن يكون تأسيسا لمشروع جديد يربط بين الإبداع والالتزام، بين الحرية والمقاومة، يؤكد جمعة.
نحو أدب للمستقبل
ويشدد الناقد المصري على أن الأدب العربي أمام مسؤولية تاريخية بعد "طوفان الأقصى". فهذه الحرب كشفت أن الرواية وحدها لا تكفي، بل نحتاج إلى مشروع ثقافي يربط الفن بالتوثيق، ويحول سيرة الشهداء إلى رموز حية في الوعي الجمعي.
ويقول جمعة: إن الكتابة عن الشهداء والقادة ليست ترفا، بل واجب وفاء. على الأدباء والروائيين أن يوثقوا حكايات من قاوموا وصمدوا، لأن الرواية التي لا تحفظ الدماء، تقتلها مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بالنسيان.
ويشير إلى أن "الأدب هو آخر معاقل الأمة، وحين تسقط المدن، تظل القصيدة صامدة. فكل نص يكتب من أجل فلسطين هو لبنة في جدار الوعي العربي، وحين تشرق الكلمة من تحت الركام، ندرك أن الأمة لم تمت بعد".

