فلسطين أون لاين

تقرير رصاصة قنَّاص تنهي حلم أب بطعام لابنه الصَّغير

...
رصاصة قنَّاص تنهي حلم أب بطعام لابنه الصَّغير
غزة/ جمال غيث:

في أحد أزقة مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يتجوّل الطفل حسين أبو العمرين، البالغ من العمر عامين ونصف العام، بين غرف منزله المتواضع باحثًا عن والده، يناديه مرارًا، ويشدّ على يد شقيقه محمد (16 عامًا) سائلاً: "أين بابا؟"، لكن الجواب واحد: لا عودة لمن غادر.

ففي صباح يوم الجمعة، الأول من أغسطس الجاري، ارتقى والده، صالح أبو العمرين (52 عامًا)، شهيدًا بعدما أصيب برصاص قناصة الاحتلال الإسرائيلي أثناء محاولته الوصول إلى موقع زكيم العسكري شمال غرب غزة، حيث تتوقف هناك قوافل المساعدات، بحثًا عن طعام لطفله الجائع.

رغيف خبز وحلاوة

كان صالح، كما يروي نجله البكر محمود (21 عامًا)، أبًا حنونًا لا يفارق طفله الصغير حسين، يطعمه، يحمله، ويدلّله بما استطاع، رغم الحرب والحصار. ومع ازدياد طلبات الطفل البريئة: "بابا.. بدي خبز.. بدي حلاوة"، لم يعد قلب والده قادرًا على تجاهل معاناته، فقرّر في ذلك اليوم أن ينطلق برفقة ابنيه، محمود ومحمد، نحو موقع زكيم، حيث تُلقى أحيانًا مساعدات غذائية من شاحنات تمرّ من خلف الخطوط العسكرية، تحت أنظار الجوعى وآهاتهم.

كان هدفه بسيطًا: كيس دقيق وعلبة حلاوة، لطفله الذي لم يعرف بعد معنى الفقد، ولا معنى أن يُقتل الأب وهو يسعى لتأمين لقمة العيش.

يقول محمود: "في الصباح الباكر توضأ والدي، وصلى الضحى، ثم قرأ من القرآن الكريم، كأنه يتهيأ للقاء الآخر، وقال لنا: استعدوا لنذهب إلى زكيم.. حسين ينتظرنا".

انطلق الثلاثة سيرًا على الأقدام، ورغم التعب، كان صالح يسير بخطى سريعة، كما يصف محمود: "كأن والدي كان في سباق مع الموت".

وعند منطقة السودانية، بدأت قوات الاحتلال بإطلاق النار بشكل مفاجئ، فاختبأوا خلف ركام منازل مدمرة، ثم واصلوا سيرهم نحو محطة تحلية المياه شمال غرب القطاع، وهناك زادت كثافة الرصاص.

وفي لحظة مباغتة، أطلقت قوات الاحتلال نيرانها بكثافة، ليسقط عدد من المدنيين الجوعى، وسمع محمود صراخًا خلفه، فنظر ليرى والده وقد أصيب برصاصة قاتلة اخترقت عنقه وقلبه، وخرجت من ظهره.

ويروي محمود، بصوت منخفض وعينين مغرورقتين بالدموع، لصحيفة "فلسطين": "رأيته يفتح عينيه على اتساعهما، وكان الدم يخرج من فمه. احتضنته بعد توقف الرصاص، لكنه كان قد فارق الحياة".

وداعٌ حارق

بمساعدة بعض الأهالي، نُقل الجثمان إلى مستشفى حمد التخصصي، حيث أُعلنت وفاته رسميًا. لم يتمالك محمود نفسه وهو يصرخ: "ليش تركتنا يا أبي؟ حسين كان ناطر الخبز والحلاوة!"

عادوا به إلى البيت، لكن لا أحد عاد كما كان. الحزن خيّم على الأسرة، ووجوه الأمهات والجيران اكتست بالسواد. دُفن صالح في مقبرة الشيخ رضوان، بجوار والده، وترك خلفه زوجةً، وثلاث بنات، وثلاثة أبناء؛ أحدهم ما يزال يسأل عن الحلاوة، والآخر لا يعرف كيف يواسي والدته المنهارة.

ما حدث لعائلة أبو العمرين ليس استثناءً، فغزة تعيش مجاعة خانقة، بسبب الحرب المدمّرة المستمرة منذ شهور، والحصار الإسرائيلي، ومنع دخول المساعدات الغذائية والطبية.

وفي بيان لها، أعلنت وزارة الصحة أن خمسة مواطنين قضوا خلال 24 ساعة فقط نتيجة الجوع وسوء التغذية، ليرتفع عدد ضحايا المجاعة إلى 180 شهيدًا، بينهم 93 طفلًا.

ومنذ بداية الحرب، أغلقت (إسرائيل) جميع المعابر المؤدية إلى القطاع، ما أدى إلى توقف دخول 600 شاحنة مساعدات يوميًا، كانت تمثل شريان الحياة لأكثر من 2.3 مليون فلسطيني.

أما بعد مرور 20 شهرًا من الحرب، فقد خلّفت أكثر من 210 آلاف شهيد وجريح، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأكثر من 9 آلاف ما زالوا في عداد المفقودين، في حين نزح مئات الآلاف من بيوتهم المدمّرة، لا يحملون معهم سوى ذكرياتهم وصور أحبائهم.

أما حسين، فما يزال يمسك بقطعة خبز يابسة، ويطلب الحلاوة من أمه. لا يعلم أن والده، الذي كان يحقق له أمنياته، أصبح صورة معلّقة على الجدار، وذكرى لا تغيب عن ألسنة الموجوعين.

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين