لا يُحيي الغزيون الذكرى السابعة والسبعين للنكبة بصفتها مجرد مناسبة تاريخية، بل يعيشونها بكل تفاصيلها المريرة من جديد، وسط حرب ضارية اقتربت من دخول عامها الثالث، دمّرت الأرض ومزّقت المجتمع، ونسفت ما تبقّى من حياة اقتصادية هشّة كانت بالكاد تقاوم.
النكبة التي هجّرت أجدادهم من أراضيهم عام 1948 وسلبت ممتلكاتهم، تعيد إنتاج نفسها اليوم بأدوات أكثر وحشية وتعقيدًا. آنذاك، فُقدت مصادر الرزق، وتحوّل المنتج الفلسطيني إلى لاجئ يتلقى الإعانات.
واليوم، تحت نيران القصف والحصار، يعيش الغزيون نكبة اقتصادية مركّبة أغلقت أبواب الأمل، وأغرقت القطاع في أسوأ كارثة اقتصادية منذ النكسة.
تشير البيانات إلى أن الحرب دمّرت معظم مكونات البنية الاقتصادية: المناطق الصناعية، المزارع، المنشآت التجارية، المصانع، مرافئ الصيد، وحتى الأسواق الشعبية؛ ما أدّى إلى فقدان أكثر من 85% من السكان لمصدر دخلهم، وتوقفت معظم الأنشطة الاقتصادية بشكل شبه كامل.
ومع استمرار الحرب، ارتفعت معدّلات الفقر إلى أكثر من 90%، وبات الأمن الغذائي مهدّدًا على نطاق واسع، وسط انهيار مؤسسات التمويل والخدمات.
الدكتور سمير الدقران، الخبير الاقتصادي، يصف ما يجري في غزة بأنه "نكبة مضاعفة" تفوق تلك التي عاشها الفلسطينيون قبل 77 عامًا، ويؤكد أن الحرب الحالية لم تستهدف فقط الأرواح والممتلكات، بل امتدت لتقضي على مقوّمات الصمود الاقتصادي بشكل ممنهج.
ويقول الدقران لصحيفة "فلسطين": "غزة لا تواجه فقط تدميرًا في البنية التحتية، بل تُستهدف في عمقها الإنتاجي".
وأضاف: "الحرب دمّرت الحواضن الاقتصادية القليلة التي بقيت للمجتمع، من مشاغل صغيرة إلى مشاريع زراعية قائمة على الاكتفاء الذاتي، حتى السوق المحلية تم تدميرها عبر شلل سلاسل التوريد ومنع دخول المواد الخام".
وتابع: "ليست حربًا تقليدية، بل حرب إبادة اقتصادية بامتياز. هناك سياسة واضحة لتفريغ القطاع من قدرته على الحياة. وحتى في حال توقّف العمليات العسكرية، فإن عملية إعادة الإعمار وحدها تحتاج لعقود، إن توفرت الإرادة السياسية والتمويل، وهما أمران غائبان حتى اللحظة".
من جانبه، أوضح الباحث الاقتصادي خالد أبو عامر أن نكبة عام 1948 لم تكن فقط تهجيرًا جغرافيًّا، بل لحظة انكسار اقتصادي لم يتعافَ الفلسطينيون منها حتى اليوم.
وقال أبو عامر لـ"فلسطين": "قبل النكبة، كان الاقتصاد الفلسطيني مزدهرًا، بفضل الموانئ النشطة في يافا وحيفا، والقطاع الزراعي والصناعي المتين.
لكن التهجير دمّر هذا التوازن، وصودرت الأراضي والمنشآت، وتحوّل الكادح الفلسطيني إلى لاجئ بلا أدوات إنتاج".
وأضاف أبو عامر: "ما نشهده اليوم في غزة ليس تكرارًا للنموذج القديم فقط، بل هو تكثيف له. الأرض تُقصف، المنشآت تُزال من الوجود، وحصار خانق يمنع إعادة البناء أو الإنتاج.
النكبة مستمرة، ولكنها اليوم تُمارس بصيغة اقتصادية منظّمة هدفها تقويض القدرة على البقاء".
وبينما تتواصل الحرب بلا أفق واضح، تحذّر تقارير دولية من أن القطاع يواجه انهيارًا اقتصاديًّا كاملًا إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه. وتشير تقديرات أولية إلى أن عملية إعادة الإعمار تتطلّب استثمارات بمليارات الدولارات، في وقت يعاني فيه القطاع من شلل اقتصادي شبه تام وتقييد ممنهج لحركة البضائع والأفراد.

