بابا بدي آكل أنا جعان..."، هز الطفل أحمد حمتو والده بهذه الكلمات التي اخترقته كسهم ثاقب في زمن حرب التجويع بغزة، وبينما خاض رحلة كفاح لتدبير "شيء ما" يسد به جوع أطفاله، كانت قذيفة مدفعية أسرع في الوصول إليهم.
على سرير المستشفى يئن أحمد البالغ أربعة أعوام، وقد ركب الأطباء أجهزة مختلفة في جسده المصاب، يفوق الوجع تحمله، وتسكب عيناه الدموع، ويضيق صدره بما لا يمكنه لسانه الثقيل من نطقه.
في مخيم المغازي للاجئين وسط قطاع غزة، كاد أحمد وإخوته الخمسة الأطفال ووالداه أن ينضموا إلى عشرات الآلاف من الشهداء الغزيين، لكنهم وإن نجوا من الموت أصيبوا بدرجات متفاوتة.
"كنت خارج البيت.. اتصل بي أحمد قال لي: أنا جعان، ولا يتوفر عندنا طحين، فقلت له؛ حاضر يا بابا"، يروي محمود حمتو والد الطفل لـ"فلسطين أون لاين" كيف بدأت أحداث ليلة لن ينساها، تنقش تفاصيلها في قلبه، وعلى أجساد أبنائه.
عجز الأب المنهك بالمعاناة من حرب الإبادة الجماعية، عن توفير الدقيق أو الخبز لأسرته، ولم يتمكن من شراء شيء سوى قطعة واحدة من البسكويت تباع حاليا بـ12 شيقلا، بعد أن كان ثمنها شيقل واحد فقط.
ويبدو محمود الذي يقف إلى جانب طفله المتأوه في المستشفى كمن يحمل جبلا على ظهره، وتكاد قدماه أن تسقطاه أرضا.
يتحامل محمود البالغ (34 عامًا) على نفسه ويتابع: وصلت إلى باب العمارة، كانت زوجتي وأطفالي يهرعون إلى الخروج منها، بعدما سقطت قذيفة مدفعية عليها، وفي هذه اللحظة سقطت القذيفة الثانية.
وقعت الصدمة في قلبه، وبات يلطم وجهه بلا وعي، إنها ثوان فحسب كانت تفصله عن الموت، وللحظات لم يكن يعلم مصير أسرته.
رمضان البالغ (12 عامًا) والذي كان برفقة أبيه خارج المنزل، وأصيب كلاهما برضوض نتيجة الضربة المدفعية، يقول: "لما وصلنا باب الدار سقطت القذيفة... لقينا إخواتي إيديهم ورجليهم دم".
يقول الأب المكلوم: أطفالي وزوجتي كانوا في البيت "بأمان الله"، ودون إنذار سقطت القذيفة الأولى على المنزل وبينما كنت بصدد الدخول إلى المبنى لإنقاذهم مع الجيران وقعت الضربة الثانية.
يعاني أحمد الآن من مشاكل في الرئتين وقد أصابته شظايا في منطقة قريبة من النخاع الشوكي وتوصف حالته بأنها بين متوسطة وخطيرة ويحتاج إلى العناية المكثفة، وفق والده.
أما تالا (13 عاما) فأصيبت بشظايا في الرأس، وأسيل (10 أعوام) في الرأس والظهر وأنحاء أخرى من الجسم، وريتال (سبعة أعوام) في الظهر، وتوصف حالاتهم بالمتوسطة، ومحمد (5 أعوام) تصنف إصابته بالطفيفة.
وأصيبت والدتهم برضوض، لكنها تعاني من حالة نفسية صعبة من جراء الضربة المباغتة.
يتساءل الأب بحرقة وهو يمسح دموع أحمد: "ما ذنب هؤلاء الأطفال؟"، ويبقى سؤاله دون إجابة في عالم يصفق للاحتلال، وينصر الجلاد على الضحية.
وجاء هذا الحدث في حياة محمود ليزيد الطين بلة مع انعدام قدرته على مجاراة تبعات حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، على صعيد الغذاء والمأوى وغير ذلك من مقومات الحياة الأساسية.
ويعيش محمود وأسرته في شقة مستأجرة، لكن أجبره العدوان على النزوح منها مرات عدة، حاله كحال مئات الآلاف من الغزيين.
وعن ذلك يقول: "الوضع اللي احنا فيه صعب، مش قادر أجيب حبة أكل.. والدار انضربت 3 مرات، وين أروح؟".
وكانت المرة الأولى في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بصاروخ من طائرة حربية بدون طيار، والثانية بقذائف مدفعية أثناء اجتياح سابق للمغازي.
ويؤكد محمود أن الاحتلال ارتكب هذه الجرائم عن قصد، لعلمه بأن المبنى يقطنه أطفال ونساء.
ومنذ بداية حرب الإبادة استشهد 44,758 مواطنا وأصيب 106,134 آخرون معظمهم نساء وأطفال، بحسب إحصاءات وزارة الصحة.
لكن هذا الحدث لم يكن بداية المعاناة في حياة محمود الذي استشهد أبوه في الانتفاضة الأولى عام 1993، وتربى يتيما مع إخوته الخمسة.
ومع الظروف المعيشية الصعبة التي سببها الاحتلال وتداعيات الحصار المشدد لقطاع غزة، حرم محمود من إكمال دراسته الجامعية.
يقول: كنت أملك بيتا مكونا من غرفة ومطبخا ودورة مياه، لكن أطفالي بدؤوا يكبرون والحصار يشتد، فراودتني فكرة الهجرة غير الشرعية التي سببت لي معاناة كبيرة وخسرت معها كل شيء، وأعادتني إلى نقطة الصفر.
ويضيف: اعتقدت أن الهجرة ستوفر حياة أفضل لأطفالي وبعت البيت، وعندما وصلت إلى اليونان انخطفت وانسجنت، لأن الفلسطيني مضطهد أينما ذهب خارج وطنه.
ورفض محمود التوقيع على وثيقة تفيد أنه لاجئ بلا وطن، ورحل إلى تركيا ومنها إلى مصر ثم إلى غزة، قبل أربعة أعوام.
وعند عودته، اضطر محمود لاستئجار بيت في المغازي لم يسلم من الاستهداف المتكرر، وقد بات الآن نازحا بلا مأوى.
ينظر محمود بأسى إلى أطفاله المصابين، مخاطبا العالم: "انظروا لهؤلاء الأطفال بعين الرحمة.. إنهم يريدون العيش في وطنهم بكرامة".
لكن إلى أن يستجيب العالم لندائه، سيخوض رحلة مريرة لمداواة أطفاله وإطعامهم وتوفير المسكن لهم، في منطقة لا يوجد فيها مع حرب الإبادة مكان آمن.