فلسطين أون لاين

"كنت أَظلُ أُراقبه بلهفة حتى يبتعد ويتلاشى من المكان" ..

تقرير استقبلت وحيدها بالكفن ولَم يَأْت مِن الباب

...
قصَّة أمّ استقبلت وحيدها بالكفن ولَم يَأْت مِن الباب
غزة/ يحيى اليعقوبي:

اخترق آذانها اسم ابنها الذي يتبادله الأقارب بينما كانت منشغلة في أعمال منزلية في بيت نزحت إليه "محمد ناصر استشهد"، ألقتْ ما تحمله، لم تتهيأ يومًا أو تستعد للحظة واحدة أن تسمع خبر رحيل ابنها الوحيد الذي حرسته منذ نعومة أظافره بحبات عيونها كرست حياتها لأجله، نظرت لبناتها الأربع فرأتهن يبكين بُحرقة، فكذبت تلك الدموع تكذب الخبر: "والله محمد ما استشهد، أنا ما صابتني نخزة، ولا حسيت بشي" وسبقتهن إلى المشفى.

تأخر وصول جثامين الشهداء جراء استهداف الاحتلال لمربع سكني بمخيم البريج وسط القطاع في 30 يوليو/ تموز 2024 ، وكان محمد عبد الناصر جبريل (20 عامًا)  موجودا في بيته داخل المربع المستهدف بينما نزحت أمه وشقيقاته لبيت آخر، وعندما جاؤوا بأحد الشهداء وقدم لأمه على أنه نجلها  طمأنت بناتها "لا تخفن، الذي بالكيس ليس محمدا ولا يشبه شقيقكن. ابني جميل" رغم أن كل من حولها يعرف أنه محمد وفضلوا أن تراه بنفسها وتتجرع الصدمة وحدها، رأفة بقلبها فالجميع يعلم مقدار حبها لوحيدها.

photo_2024-08-29_17-03-47.jpg
 

جنازة متأخرة

خرجت جثامين الشهداء وصل الناس عليهم واحدًا تلو الآخر ودفنوا إلا جثمان الشاب المغطى بالكفن لم يدفن بعد بسبب انكارها وانكار شقيقاته معها. مرت أربع ساعات أخرى ولم يأتِ من باب المشفى كما كانت هيأت نفسها ورفضت أي سيناريو آخر، ترفض حتى فتح الكفن والنظر بتمعن لجثمان الشهيد، تسبقها مخاوفها المليئة بالدموع مع كل سؤال تسأله كلما مر أحد من الجيران: "هل رأيت ابني؟"، فكانوا إما ينكرون أو يفضلون الصمت، رغم أنهم يعلمون أن من بالكفن ابنها وليس أحد غيره.

من قوة القصف العنيف ذهب نصف وجه نجلها الملائكي، وحرق شعره الناعم الأسود. تحاملت الأم على نفسها وقررت فتح الكيس، ألهمها المولى الصبر والقوة، لم تبكِ أو تصرخ عندما عرفت أن من بالكفن هو "محمد".

تصلبت نظراتها وتشقق قلبها وهدمت أعمدة صبرها وهي تنظر إلى  قدمه ممددة بجانبه، نظرت ليده وأظافره المقصفة، جاء صاحبه وعدل رأسه ومسح على سنه، انتبهت أمه لعلامة في مقدمة سنه تعرفها "لم يعد هناك مجالا للإنكار" هكذا اعترفت لنفسها.

 غطى صديقه نصف وجهه المتبقي، وفتحت أخته عينه المتبقية، فصارت كلها تشبه محمد، تجرأت الأم التي ترتجف من الداخل على فتح الكيس كاملا عليه فوجدت قميصه الخاص به.

غابت في دقيقة صامتة، تمردت فيها دموعها على كل محاولاتها للتماسك، وأعلنت العصيان وانهالت من حواف عينيها، تشرب من كأس الفقد وهي تودع وحيدها، تحاول إطالة النظرة التي لم تكن تنظر لأشلاء نجلها بل لصوره التي تحركت أمامها، ضحكته، أناقته، صوته القادم من الذاكرة، مشهد ولادته، مشيه، ركضه في طفولته، ذهابها معه للمدرسة وانتظاره حينما يعود، سهرها عليه، طموحه وأحلامه، كلها رحلت الآن، ثم أغلقت الكفن وأبقت على رأسه مكشوفًا.

كسرت الأم صمتها وملأ صوتها صالة المشفى "هاد ابني أنا. شيلوا ابني عن الأرض بكفي قد ما ضل على الأرض"، طبعت قبلة الوداع وودعه شقيقاته وأقاربه وأصدقاؤه، فكانت له جنازة كبيرة، صلى عليه عدد كبير من الأقارب والجيران والأصحاب، وحملوا الجثمان لأول مرة بعيدًا عن دفء نظراتها التي حرسته حتى بلغ العشرين عامًا.

مخاوف تلاحقها

تقول الأم المثقلة بوجع الفقد لـ "فلسطين أون لاين": "أكرمني الله بابني محمد فجر 14 مايو/ أيار 2004، عند ولادته أصابني خوف من أن يقوم أحد الممرضين باستبداله بطفل أخر، فأوصيت الممرضة بإعطائه لزوجة عمه، ما جعل الممرضة تضحك على تصرفي".

أصبح محمد طفلًا، وأبقته أمه في البيت خوفًا عليه من الشارع، "لكني أيضًا أصابني خوف من بقاءه في البيت، فتركته يلعب مع أطفال الحي، ثم عاد الخوف يتملكني، فأصبحت كلما خرج محمد من البيت، أقوم بإعادته".

ذهب محمد للمدرسة، وظلَّ شعور الخوف يُلازمها، فخافت أن تكون علاماته متدنية دونًا عن أبناء جيله، في ذلك الوقت أنجبت بعملية قيصرية أُخته الصغيرة "لين"، وفي يومها الرابع من الولادة القيصرية، جلست أُدرسه لامتحاناته، متجاهلة ألم وولادتها الحديثة.

كبُر محمد وأصبح الشاب ابن الجامعة، فكان متفوقًا في كل مرحلة من مراحل حياته، وكلما راح محمد مرحلة، اجتهد أكثر فتفوق أكثر، وأثبت جدارته أكثر فأكثر.

تفتح أبواب قلبها وتضعه في ميزان الحب الذي منحته له "كان ابني من شدة تعلُقي به، كُلما فتحَ باب البيت الساعة السابعة والنصف صباحًا متوجهًا لجامعته، أقف عند الباب، فأَظلُ أُراقبه وأنظر إليه بحب ولهفة حتى يبتعد ويتلاشى من المكان، ثم أعود وأُغلق الباب، لأحمد ربي وأشكره، على جميل كرمه وعطيته".

حبٌ غلب حبها

انتهت السنة الأولى لمحمد بتقدير "جيد جدًا" مرتفع تخصص برمجة بالجامعة الإسلامية، واعدًا إياها بـ "الامتياز" في السنة الثانية، لكنَّ "حب الله لمحمد كان أكثر من حبي له، إذ كان حبيب قلبي دائما ما يُردد في أيامه الأخيرة، "من أحبَّ لقاء الله، أحبَّ الله لقاءه" ف صدقَ مع الله، ف صدق الله معه، فأخذه مني، واصطفاه شهيدًا، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وفاز محمد بشهادة الآخرة، عِوضًا عن شهادة الدنيا، وأي فوز هذا. الحمد لله أن وحيدي شهيد".

عن خوفها الشديد عليه، تجيب الأم المكلومة "منذ ولادته لازمني شعور الخوف، أريده أن يصبح رجلا ولديه مكانة، أريده أفضل الخلق، أخشى عليه من كلمة تجرحه لأنه حساس جدًا، زرعت فيه مخافة الله منذ صغره، لأنه كان عطية من الله طلبتها في كل صلاة ودعاء، فشكرت الله بحسن تربيتي لمحمد".

خلال الحرب لم يغب شعور الخوف والفقد عن قلبها، لكنها لم تتوقع يومًا أن يستشهد محمد، وأن تكمل الحياة بعيدة عن محمد، لم تكن تقبل أن يجرح، فعاش حياة "مرفهة"، لتسود الحياة في عينيها وتنكس رايات الحزن التي استوطنت قلبها مدى الحياة.

في آخر أيامه، كان يختلي محمد بنفسه بإحدى غرف البيت يصر على حفظ القرآن الذي وعد أمه بحفظه وشجعته على ذلك ويبقى منعزلاً إلى أن ينهي ورده اليومي، كان ضحوكًا، يمازح الكل، طيب الخلق، يحافظ على صلاة الفجر حتى في أصعب الأجواء الشتوية.

تلسع أمه حرقة القلب "رغم أنه ابني وأنا من يجب أن أضعه في حضني، إلا أنه هو من كان يعانقني دوما ويقبل رأسي، ويدي، ومن شدة فرحتي فيه كنت أقبل ذقنه ووجنتيه، وأقول له: الحمد لله ربنا  أعطاني إياك، وأقول له: يا هبة ربي من السما وأجمل هدية.

أما شقيقته ولاء، فتتأمل سيرته بكلمات تتدفق من حطام الفقد "أُجزم أن لا أحد كان يمتلك أخًا مِثل أخي، ليس لأنه أخي فقط، ولكن كان عوض من الله وعطية وكرم، كان يبلغ من العمر ٢٠ عاما، لم أتمنى يوما أن يكون لي أخ معه، "كان عن عشر أولاد"، حنونًا، طيبًا، مؤدبًا خلوقًا".

 تطل صورته من شرفة ذكريات مليئة بالحزن "كلما جاء من الخارج هو من كان يستقبلنا بالعناق وقبلة على الرأس، ومن كان لها أخ كأخي يُقبل رأسها كل يوم؟! كنا نجلس كل ليلة سهرة أخوية ونُعد المسليات ونبقى إلى أن يأتي وقت قيام الليل ويتركنا محمد، ثم نغبطه على التزامه، فنصنع كما يصنع هو من عبادة وصلاة".

 يحضرها موقف  انتقته ذاكرتها "كان من شدة حياء محمد أن لا يلتفت إلى أحد، وفي مرة رأته أختي في الشارع فنكزته في كتفه، لكنه لم يلتفت لها ولا أراد أن يعرف من الذي نكزه، وعندما عاد للبيت، أخبرته أخته بفعلتها فضحك وقال : كنت أحسبك غريبة والله.

في 12 يونيو/ حزيران 2023 نشر ألبوم صور له على جدار صفحته على فيسبوك سعيدًا بختام السنة الأولى لدراسته الجامعية، وفي 11 سبتمبر/ أيلول من العام ذاته نشر صورة يرتدي سترة سمراء وبنطالاً أزرقًا بطلة جميلة يشع الفرح من ملامحه وكلماته في أول يوم للجامعة.

ورغم الحرب وظروفها التي أبعدت الطلبة عن مقاعدهم الدراسية إلا أن محمد اجتهد على نفسه، فتقول شقيقته ولاء، بأنه كان دائمًا العمل على مشاريع تخصصه البرمجة أولاً بأول، وكان يحب تخصصه ومبدعًا فيه، ولديه طموح كبير وأمل بأنه سيكون شيئًا في يوم من الأيام.

تجاوز حالة الحزن على رحيل محمد جدران منزله، بكاه الحي بالكامل، كما تنقل شقيقته، وهذا يرجع إلى سيرته الحسنة التي تركها في الحي، "الجميع دائمًا يمدح أخلاقه".

يغلب الطابع الديني على منشوراته على صفحته على فيسبوك ستقرأ في ملف تعريفه " سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا "، كان يدرك حتمية الرحيل عن الدنيا وقلب أمه، ومن كلماته " عش ما شئت فَإِنَّكَ ميت وأحبب من شئت فَإِنَّكَ مفارقه"، لكنه كان مسلما للقضاء في نظرته الواقعية فكتب "دع الأيام تفعل ما تشاء و طب نفسا إذا حكم القضاء، ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء".

رحل محمد، وهدم الاحتلال البيت، وبقيت أمه ترثيه كل يوم على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك مساحتها للبوح ولإخبار الناس عن قصته وعن حبها له، عن ماذا فعل الاحتلال بقلبها، مشهد لم يفلت من أبيات "درويش" " في حضرة الغياب الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء."