ناقشت في مقالاتٍ سابقة بعض المفاهيم الأخلاقية والقانونية التي تم تداولها أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة؛ بوصفها جزءًا من خطاب الحرب الذي يحاول اختراع مسوغات سياسية وأخلاقية للحرب المستمرة، بالرغم من كلفتها الإنسانية الهائلة والموجعة، والتي نزلت بها إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، بحسب فحوى قرار محكمة العدل الدولية الصادر مؤخرًا، وإن لم تملك المحكمة الجرأة الكافية للتصريح بذلك نصًّا.
وإذا كان قرار محكمة العدل الدولية ثمرةً لدعوى قضائية رفعتها جنوب أفريقيا ضد الأعمال العسكرية الإسرائيلية، فإن ثمة تحركا قانونيًّا آخر بدأ بدعوى ضد الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن، رفعها مركز الحقوق الدستورية بالولايات المتحدة، وتنظر فيها محكمة فدرالية في كاليفورنيا. فحوى هذه الدعوى أن الثلاثة المُدَّعَى عليهم تواطؤوا في جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة. وفي الواقع أن هذا التواطؤ يقوم على أساس قانوني وأخلاقي قوي، سأوضحه من خلال ثلاثة أمور:
الفعل السياسي والفعل العسكري والمسؤولية القانونية والأخلاقية عن الفعلين السابقين.
أولاً: من جهة الفعل السياسي
قدمت إدارة بايدن الدعم السياسي غير المشروط لإسرائيل، سواءٌ في احتلالها وحصارها لغزة أم في الحرب الجارية على غزة، وقد أوجد هذا الظروف الملائمة لحدوث الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. ومن جهة الفعل العسكري، زودت إدارة بايدن إسرائيل بالدعم العسكري السخي وغير المشروط -أيضًا- في حربها على غزة وبشكل طارئ ومتجاوز لأي رقابة أو تقييد.
ومن جهة المسؤولية القانونية والأخلاقية، يُعد التسليح السابق -في زمن الحرب ودعمًا لها- انتهاكًا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية التي وُقعت عام 1948؛ رغم أن من مسؤوليات الولايات المتحدة الأميركية منع الإبادة الجماعية بموجب القوانين والأعراف الدولية، كما أن فعل التسليح نفسه في زمن الحرب هو فعل مشارك؛ إذ إنه وقع لأجل دعم طرف واضح ومحدد ومن دون أي شروط أو قيود. ومن مجموع الأمرين السابقين (الفعل السياسي، والفعل العسكري) نخلص إلى أن المسؤولين الثلاثة المشمولين بالقضية لم يُخفقوا -فقط- في تنفيذ التزاماتهم القانونية والأخلاقية، بل ساهموا – أيضًا – في تسهيلها وحدوثها.
ثانياً: الشق العسكري
وهو بالغ الأهمية هنا من الناحيتين القانونية والأخلاقية؛ لأنه فعلٌ ثابتٌ من حيث الوقوع، وظاهرٌ يمكن التحقق منه، وصريحٌ؛ يُفصح عن النوايا والمقاصد لدرجة أنه يقوم مقامها. فالنوايا -وإن كانت مستترة- يقوم مقامها صراحةُ الفعل وتَمَحُّضه للدلالة على مقاصد الفاعل، الأمر الذي يغني عن البحث في مسوغات ونوايا الفاعلين. ومن شأن هذه الخصائص مجتمعةً أن توضح هشاشة الدعاوى والتصريحات السياسية الأمريكية التي حاولت -على مدار الحرب الجارية- أن تتجنب المساءلة القانونية والانتقادات السياسية، تارة من خلال سَوْق مسوغات عدة لجرائم إسرائيل في الحرب (كالقول إن إسرائيل لا تستهدف المدنيين، أو إن لها الحق في الدفاع عن النفس، أو إنه لا يوجد دليل على وقوع إبادة جماعية، وغير ذلك)، وتارة أخرى من خلال الدعوة المبهمة والمتكررة لحكومة نتنياهو إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وفي نفس الوقت دعمها عسكريًّا بلا قيد أو شرط، وتارة ثالثة من خلال دعوة إسرائيل إلى "تقليل الخسائر البشرية".
والواقع أننا إذا قارنّا الخطاب السياسي الرسمي الأمريكي حول الحرب -منذ بدايتها وحتى الآن- بالفعلين السياسي والعسكري الأميركيين، سنخلص إلى أن إدارة بايدن ساهمت -فعليًّا- في الإبادة الجماعية؛ فقد عطلت أي محاولة لإيقاف الحرب في مجلس الأمن من جهة، وزودت إسرائيل بأطنان من الأسلحة خلال الحرب من جهة أخرى، ودافعت عن أداء الجيش الإسرائيلي وبررت له باستمرار خلال الحرب من جهة ثالثة. صحيحٌ أن الفعل السياسي هو المؤسِّس للفعل العسكري، وأن الفعل العسكري خادمٌ للفعل السياسي، ولكن الفعل العسكري يتسم بسمات أساسية تجعله أبلغ تأثيرًا وأصرح في المسؤولية القانونية والأخلاقية، وتتلخص في:
أنه يمكن ضبطه وقياسه.
وأنه صريحٌ في ترجمة مقاصد ونوايا الفاعلين السياسيين.
وأن ضرره مباشر وحاسم.
تساعدنا هذه السمات الثلاث على تقويم التسليح الأميركي لإسرائيل عمومًا، وفي الحرب الجارية على غزة خصوصًا. ويمكن أن نقوم بهذا التقويم الأخلاقي والقانوني من خلال ثلاث جهات:
الجهة الأولى: فعل التسليح نفسه
فالتسليح واقعٌ في سياق خاص هو "زمن الحرب"، وبقصد خاص هو "تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية للحرب". فلسنا -إذن- أمام فعل تجاري قصده التربح، وإن كان ذلك -أيضًا- مدان أخلاقيًّا، وإنما نحن أمام فعل مقصودُه الدعم العسكري للحرب. ومن اللافت أن فقهاء المسلمين قد ناقشوا -تاريخيًّا- مسألتين تتصلان بفعل التسليح:
الأولى: حكم بيع السلاح في زمن الحرب (وفي زمن الفتنة والبغي أيضًا).
الثانية: حكم بيع ما يُتَّخذ منه السلاح، كالحديد ونحوه.
وقد انتهى جمهور الفقهاء في المسألتين إلى التحريم؛ فيَحرم بيع السلاح أو ما يُتَّخَذ منه السلاح لفئات من الناس تشمل أهل الحرب والبغاة وأهل الفتنة. وهذا يعني أن تحريم هذا الفعل عامٌّ يشمل بيع السلاح للمسلمين ولغير المسلمين؛ لأن علة التحريم سدّ الذريعة إلى القتل. فالسلاح آلة القتل، وبيعُه في زمن الحرب أو الفتنة أو البغي آكد في استعماله لأجل القتل وأن فيه تقويةً لأحد الطرفين المتحاربين أو باعثًا للطرفين على شن الحروب ومواصلة القتال. فهذا الفعل يُقصد به الحرام، وكل تصرف يُفضي إلى الحرام حرامٌ.
ويمكن لنا أن نميز هنا بين مستويين مختلفين. فنقاش الفقهاء الكلاسيكيين كان يتحرك في أفق بيع السلاح للاتجار به، أما بيع السلاح بغرض دعم الحرب غير المشروعة فهو مستوى أشد في التحريم، كما هو الحال في الحرب على غزة. ولا شك أن التسليح في كلا المستويين محرّم؛ لأن قصد البائع لا يسوّغ القصد إلى الاتجار ولا الدعم العسكري للحرب؛ لأن التسليح يعزز فعل القتل، ومن ثم عُلّق التحريم بوصفين منضبطين هما: بيع آلة القتل وفي زمن الحرب.
هذا التحريم يعزز فكرة عدم المشاركة في القتل أو عدم المساهمة في تزكية الحرب. ويشبه هذا المنظورَ الفقهيَّ الأخلاقي منظورُ منظمة العفو الدولية التي حذرت -في تقرير لها- من أن "الولايات المتحدة قد تُعتَبر مشاركة في المسؤولية عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي التي ترتكبها إسرائيل بأسلحة زودتها بها، حيث يقع على عاتق جميع الدول واجب عدم المساهمة -عن عمد- في الأعمال غير المشروعة دوليًّا من قبل دول أخرى". وهذا يؤكد فكرة أن التسليح في مثل هذه الحالة هو مساهمة في الحرب.
الجهة الثانية: نوع الأسلحة المبيعة والمستخدمة
ثمة التزام أمريكي ثابت بتسليح إسرائيل منذ سنة 1948، وتَعزز هذا منذ سبعينيات القرن الماضي؛ لضمان تفوقها العسكري النوعي على أعدائها المحتملين في المنطقة. وفي الفترة الواقعة بين 1948 ومطلع 2023 قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات بقيمة 158.66 مليار دولار. وإذا أُضيف إلى ذلك معدل التضخم سيتضاعف الرقم إلى 260 مليار دولار، بحسب دراسة صدرت عن مركز خدمة أبحاث الكونغرس. ولكن لندقق في مسألة التسليح في حالة الحرب الجارية على غزة تحديدًا. فقد زودت حكومة بايدن إسرائيل بأسلحة طارئة مرتين خلال شهر واحد فقط (في ديسمبر/كانون الأول 2023)، متجاوزةً موافقة الكونغرس؛ بحجة وجود "حالة طارئة تستوجب موافقة فورية على نقل الأسلحة"، كما جاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية في ديسمبر الماضي.
يمكن أن نميز في هذا التسليح الأمريكي أثناء الحرب على غزة بين أسلحة ذكية يمكن توجيهها بدقة، وأخرى غبية لا تحتوي على أنظمة توجيه دقيقة. فعلى مستوى الأسلحة الذكية، أوضح مسؤولون أميركيون لبعض الصحف الأمريكية أنه تم تزويد إسرائيل بألوان مختلفة من الأسلحة تم تفصيلها في تقارير متنوعة، ونشرتها بعض المواقع الإخبارية، من بينها قنابل ذات رؤوس حربية خارقة للتحصينات (تُعرف باسم "بي إل يو-109")، وهي مصممة لاختراق الخرسانة قبل أن تنفجر، وهذا يوضح قدرتها التدميرية الهائلة لها. وعلى مستوى الأسلحة غير الموجهة (أو الغبية)، أعادت أمريكا بعض الأسلحة الغبية إلى إسرائيل لاستخدامها في غزة، بعد أن كانت سحبتها من إسرائيل لدعم أوكرانيا، وهذه الأسلحة هي – في الأصل – جزء من المخزون الأميركي الاحتياطي العسكري، ومنها 57 ألف قذيفة (155مم)، بحسب مسؤولين أمريكيين نقلت عنهم وكالة بلومبرغ الإخبارية.
ورغم أن كلا نوعي الأسلحة شديد التدمير، إلا أن الأسلحة الغبية أشد خطرًا؛ لأنها تثبت مقولة "القصف العشوائي" الذي ضاعف عدد الضحايا من المدنيين، والذي أقرّ به بايدن حين قال -مؤخرًا- إن إسرائيل قامت بـ"قصف عشوائي" في غزة. وكان نحو 30 منظمة إغاثة قد أرسلت خطابا إلى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تحثه على عدم إرسال قذائف عيار 155 مم إلى إسرائيل خاصة؛ لأن فيها خطورة كبيرة تتمثل في أنها "غير موجهة"، وهامش الخطأ فيها كبير.
وقد أشارت هذه المنظمات إلى أن هذه القذائف "تسقط عادة على بعد 25 مترا من الهدف المقصود"، وهذا يجعلها في غاية الخطورة في قطاع غزة الذي يعتبر واحدا من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان. ويزيد الأمر تأكيدًا أن تقريرًا للاستخبارات الأمريكية قد أكد أن ما بين 40 و45 بالمئة من القنابل جو-أرض التي استخدمتها إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول (ومجموعها 29 ألف قنبلة) كانت "قنابل غبية"، وكانت شبكة CNN قد نشرت فحوى هذا التقرير، ونقلت عن جيمس ستافريديز (وهو مسؤول عسكري أميركي سابق) أن المخزون الاحتياطي العسكري الأميركي "مليء بما يسمى ذخيرة غبية مثل القذائف عيار 155 مم والآلاف من القنابل الحديدية التي يتم ببساطة إسقاطها من الطائرة ويُترك الباقي للجاذبية"!. يضاف إلى ذلك أن نير دينار (المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي) كان قد رفض -في حديثه مع شبكة CNN- الحديث عن "نوع القنابل المستخدمة" في غزة.
الجهة الثالثة: عدم إدانة أمريكا للتطرف الإسرائيلي
توضح المعطيات السابقة حجم المسؤولية الأمريكية (سواء القانونية أم الأخلاقية) عن الإبادة الجماعية من جهة، وتقوض الادعاء بأن إسرائيل تحاول تقليل الخسائر في صفوف المدنيين من جهة ثانية، وتجعل ما يجري في غزة ترجمة فعلية للتصريحات الإسرائيلية (سواء السياسية الرسمية أم الدينية أو الإعلامية) التي تتحدث عن إبادة أهل غزة بصيغ مختلفة، بدءًا من استعادة خطاب "العماليق" في العهد القديم الذي ينص على الإبادة الفعلية للبشر والحيوانات (وقد ناقشته في مقال سابق)، مرورًا بالدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة، ورفض التمييز بين المدني والعسكري (وقد ناقشته في مقال سابق)، وصولاً إلى الانتهاكات الإنسانية المختلفة، وقصف المنشآت المدنية والأممية، والحصار والتجويع. ومع ذلك، لم نجد أي إدانة أمريكية لشيء من ذلك؛ رغم ادعاء أمريكا -منذ أحداث 11 سبتمبر 2001- محاربة الإرهاب والتطرف، والواقع أنها تحارب التطرف الذي يهدد مصالحها فقط، أي أننا أمام مفهوم سياسي للإرهاب وليس مفهومًا قانونيًّا أو أخلاقيًّا.