منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، جرى الحديث – بكثافة – عما سُمي العنف أو الإرهاب الإسلامي، وتكاثر الخبراء فيه كالفُطر، ونشأ سيل من الكتابات التي تحاول تفسير هذا العنف الموصوف؛ حتى إنَّ بعض مثقفينا انخرطوا في البحث عن جذور له في الثقافة العربية خاصة، أو في التراث الإسلامي عامة.
وكنت قد رصدتُ – في 2007 – التفسيرات التي قدمها كتّاب غربيون لهذا العنف، فوجدتُها تدور – بزعمهم – حول أن العنف جزء من طبيعة الإسلام، أو أنه نتاج المشكلات الجيوسياسية، أو أنه نتاج حداثة متعثرة في العالم الإسلامي، أو أن المشكلة تكمن في الجذور، وهي نصوص القرآن والحديث.
وإذا كنتُ قد ناقشت هذه المزاعم مطولًا في مناسبات سابقة ونشرت فيها كتابي: "العنف المستباح"، فإن الحرب الجارية على غزة تدفعنا إلى إعادة توجيه سؤال العنف، ولكن في الاتجاه المعاكس هذه المرة.
فلماذا لا تسمى الأفعال التي تقوم بها إسرائيل في غزة – منذ شهور – عنفًا إسرائيليًّا أو حتى عنفًا يهوديًّا؟ ولماذا لا يثير هذا العنف الإسرائيلي الذي يُبَثّ على الهواء مباشرة أسئلةً من نمط تلك التي أثارها ما سمي "العنف الإسلامي" بعد أحداث سبتمبر/أيلول، وعن جذوره الثقافية والدينية وعن تعديل المناهج الدينية؟
عنف تجاوز قنبلتين نوويتين
بغض النظر عن التاريخ الإسرائيلي الحافل بالعنف والإرهاب؛ خصوصًا أن دولة إسرائيل قامت – أساسًا – على الإرهاب، يمكن أن نرصد مظهرَين رئيسَين للعنف الإسرائيلي الجاري في غزة:
الأوّل: ضخامة عدد الضحايا من المدنيين على اختلاف مواقعهم.
والثاني: القوة التدميرية الهائلة التي أوقعها القصف الإسرائيلي على غزة؛ فقد سوّى الجيش الإسرائيلي أحياء سكنية كاملة بالأرض، وحوّلها إلى خراب، وغدا أهلها بين مُهجّر ومدفونٍ تحت الأنقاض.
بالنسبة لضخامة عدد الضحايا من المدنيين، فقد تحدثنا عنه أكثر من مرة في مقالات سابقة، وقد شارف عدد الشهداء الآن 30 ألفًا، معظمهم من الأطفال والنساء، وفيهم أطباء وصحفيون وموظفون أمميون؛ بالرغم من قرار محكمة العدل الدولية التي أقرّت – ضمنيًّا – وجود نية إبادة جماعية، وقد رأى أكثر من طرف تشابهًا بين ما فعله هتلر والنازيون باليهود من جهة، وما تفعله إسرائيل – حاليًّا – بالفلسطينيين من جهة أخرى، وفي هذا السياق جاء تصريح الرئيس البرازيلي مؤخرًا.
فنحن – إذن – أمام عنف متوحش ومنفلت من أي ضابط قانوني أو أخلاقي؛ بالرغم من كل المزاعم الإسرائيلية والأميركية، ونحن أمام حرب من طرف واحد ذات كلفة إنسانية باهظة ومؤلمة لمن يشاهدها يوميًّا على شاشة قناة الجزيرة.
ولا ينبغي أن تصرفنا أرقام القتلى عن أشكال المعاناة الأخرى التي يعانيها سكان غزة، بين قتْل وجرح وحصار وإيلام وتعذيب وحرمان من جميع مقومات الحياة والعلاج.
أما بالنسبة للقوة التدميرية التي أوقعتها إسرائيل في قطاع غزة، فالصور المتواترة والحية خير دليل، وقد اعترف الجيش الإسرائيلي بأن طائراته استهدفت أكثر من 12 ألف هدف في قطاع غزة.
وبحسب وزير الدفاع الإسرائيلي "يوآف غالانت"، أسقط الجيش الإسرائيلي أكثر من 10 آلاف قنبلة على مدينة غزة وحدها، وتبلغ مساحة هذه المدينة 56 كيلومترًا، وبعض هذه القنابل شديد التدمير، ويزن ما بين 150 كيلو غرام و1000 كيلو غرام.
وبالنظر إلى هذا الكم الهائل من المتفجرات، قُدر نصيب الفرد منها بما يتجاوز 10 كيلو غرامات. وقد دفعت هذه الحصيلة الباهظة إلى المقارنة بين ما ألقته إسرائيل على قطاع غزة من جهة، والقنبلة النووية التي ألقتها أميركا على هيروشيما وناغازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى.
فقد قُدرت القنبلة النووية الأميركية بنحو 15 ألف طن من المتفجرات. فعلى سبيل المثال، خلَص "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" من خلال هذه المقارنة إلى أن ما ألقته إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حتى الآن يبلغ أكثر من 25 ألفَ طن من المتفجرات، أي ما يعادل قنبلتين نوويتين.
وتجد هذه المقارنة – في الواقع – ما يسوّغها؛ آخذين في الاعتبار ثلاثة عوامل:
العامل الأول: التطور الذي طرأ على الصناعة العسكرية ما بين 1945 (تاريخ إلقاء القنبلة الأميركية) و2023، وخاصة بالنسبة لموادّ المتفجرات وفاعليتها ومدى تأثيرها. فحتى لو افترضنا وجود تقارب في وزن المتفجرات بين حالتي اليابان وغزة، فإن من شأن التطور التقني والعسكري أن يضاعف التأثير والقدرة التدميرية.
العامل الثاني: نوعية المواد المستخدمة إسرائيليًّا في هذه الحرب. فإسرائيل تستخدم – بحسب المرصد الأورومتوسطي – خليطًا يعرف بآر دي إكس (RDX) (يطلق عليه اسم "علم المتفجرات الكامل")، وتعادل قوته 1.34 قوة "تي إن تي".
العامل الثالث: مساحة المدينة التي يجري فيها القصف، فقد بلغت مساحة المدينة اليابانية 900 كيلومتر مربع، بينما مساحة قطاع غزة لا تزيد على 360 كيلومترًا.
فالقدرة التدميرية الهائلة تسوغ مثل تلك المقارنة إذن، خاصة أن إسرائيل استخدمت في هجماتها على قطاع غزة – بالإضافة إلى ما سبق – أسلحة محرمة دوليًّا، كالقنابل العنقودية والفسفورية، وهي عبارة عن مادة سامّة شمعية تتفاعل مع الأكسجين بسرعة وتتسبب بحروق بالغة. واستخدمت إسرائيل – أيضًا – تلك الأسلحة في مناطق سكنية كثيفة، وهذا كافٍ لتصنيف التهديد الإسرائيلي ضمن أخطر التهديدات التي يواجهها المدنيون في النزاعات المسلحة المعاصرة.
يؤكد مظهرا العنف الإسرائيلي (وهما ضخامة الضحايا والقوة التدميرية) تَعَمد إسرائيل استهداف المدنيين، كما هو ظاهر للعيان من خلال صور الضحايا وطبيعة الحرب والأسلحة المستخدمة فيها، والطبيعة الديمغرافية للأرض التي يجري قصفها، بالإضافة إلى إجراءات الحصار وتدمير المنشآت المدنية والطبية واستهداف الأطباء والصحفيين. ومن خلال هذين المظهرين يمكن – أيضًا – إثبات سمتين رئيستَين للفعل الإسرائيلي تجعلانه فعلًا إرهابيًّا:
الأولى: الاستخدام المنظم للعنف ضد المدنيين بوصفه وسيلة من وسائل الحرب.
والثانية: استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية ودينية.
ومع كل ذلك لم يتحدث مسؤول غربي واحد عن "عنف يهودي" أو حتى "عنف إسرائيلي"؛ بالرغم من أن هذا العنف صادر عن دولة إسرائيل بطريقة رسمية ومنظمة، وهي دولة تحرص – باستمرار – على تقديم نفسها في صورة "دولة يهودية".
ولم يرَ مسؤولون إسرائيليون وأميركيون بأسًا في تقديم العنف الإسرائيلي الجاري في صيغة الدفاع عن اليهود وباسمهم؛ رغم أنه خرجت بعض التجمعات اليهودية المحتجة على الحرب الإسرائيلية ترفع شعار: "ليس باسمنا".
عنف غير معزول عن الدين
وقد حرص بنيامين نتنياهو وغيره، سواء من أعضاء حكومته أم من غيرهم، على تأكيد السمة الدينية للعنف الذي يمارسونه ضد الفلسطينيين، فقد استدعى نتنياهو مثلًا – في أحد خطاباته – نصًّا دينيًّا قائلًا: "يجب أن تتذكروا ما فعله عماليقُ بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل. إنهم ينضمون إلى سلسلة من الأبطال اليهود التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع في لبنان".
وكنت قد توقفت – في مقال مفصل – عند هذه الإحالة النصية وبينت الأسس الدينية للحرب الإسرائيلية وما سماه بعض الحاخامات "قيم التوراة" في الحرب.
يقدم مظهرا العنف – إذن – المعطيات اللازمة لإثبات أن ثمة عنفًا إسرائيليًّا يجمع بين تقنيات الحداثة وبعض مقولاتها من جهة، وبين المقولات الدينية من جهة أخرى. فالعنف الإسرائيلي هو عنف دولة مدعومة عسكريًّا وسياسيًّا من قبل قوى دولية كبرى، وتمتلك قدرات عسكرية وسياسية ومالية ضخمة.
وبفضل تلك الإمكانات، فإن قدرتها على تدمير البشر والحجر لا يمكن أن تقاس بأي طرف آخر من جماعات العنف التي ظهرت خلال العقود الماضية. أضف إلى ذلك أن ثمة سمة مركزية لهذا العنف الإسرائيلي، وهي أنه عنف حديث، وتتمثل حداثته في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه عنف قائم على استخدام أحدث التقنيات، بالرغم من أن إسرائيل استخدمت في غزة أسلحة غبية وأخرى ذكية واستثمرت الذكاء الاصطناعي بكثافة أيضًا، وذلك أن غزة مثلت حقلًا لإجراء بعض التجارب العسكرية لتطوير الصناعة العسكرية من جهة، وللتخلص من مخزون الأسلحة الغبية الذي كان بحوزة إسرائيل ليفسح المجال لأسلحة ذكية وحديثة من جهة أخرى.
الأمر الثاني: أن الوسائل العسكرية المدمرة إنما تجد شرعيتها في أنها تُستخدم باسم الدفاع عن دولة إسرائيل، وفي مواجهة جماعات قروسطية أو بربرية أو بدائية، وهي أوصاف جرت على ألسنة مسؤولين إسرائيليين وأميركيين بل وأوروبيين بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وحرصت إسرائيل – منذ البداية – على ربط حماس بداعش.
والدفاع عن "الدولة" الذي يتخذ صورة "الحق في الدفاع عن النفس" المزعومة، يكفي لشرعنة كل الوسائل العنيفة لإحداث تغييرات سياسية وعسكرية وديمغرافية بما فيها التطهير العرقي بحجة الدفاع عن "الأمن القومي" لدولة إسرائيل.
فالدفاع عن الدولة ومصالحها القومية هو أحد منتجات الدولة الحديثة، والذي يرسم حدود الحسن والقبح في "الأمن القومي" هو حدود الدولة من جهة، وما تراه هي وحلفاؤها مجالًا حيويًّا لها من جهة أخرى؛ مع الأخذ في الاعتبار مسألتين في حالة إسرائيل: عقدة الذنب التي تحرك بعض الأوروبيين تجاه اليهود ومحاولة التطهر منها على حساب شعوب أخرى، وأن إسرائيل تختزل المشروع الاستعماري الغربي في صورته الفجة الوحيدة الباقية في العالم.
الأمر الثالث: أن هذا العنف يستخدم أيديولوجيا الحداثة؛ فقد ظهر مسؤولون إسرائيليون وغربيون – بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول – يتحدثون عن أن هذه الحرب هي بين العالم المتحضر والهمجية، ويمكن للمرء التقاط مظاهر عدة لتبني المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين التفوق العنصري والثقافي، لعل أبرزها تلك الأسئلة المحرجة التي وجهت أكثر من مرة للمتحدث باسم البيت الأبيض والتي تفضح نفاق الغرب وازدواجية معاييره، وأنه ليس هناك تساوٍ في تقييم حيوات البشر.
وإلا فكيف يمكن استيعاب إلحاح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها على تحرير مجموعة من الأسرى (يسمونهم الرهائن) وإظهار التأسف لفظًا على قتل وجرح عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة وعامتهم من الأطفال والنساء؟
وكيف يمكن استيعاب الثناء على عملية كوماندوز لتحرير أسيرين إسرائيليين – مثلًا – والتسبب في مقتل نحو مئة مدني من دون أي حساسية أخلاقية؟
وكيف يمكن اعتبار ما قامت به حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول مذبحة وعملًا بربريًا وهمجيًا، ولا توصف بذلك عمليات القصف الإسرائيلي العشوائي التي خلفت ذلك الدمار الشامل الذي تحدثنا عنه، وخلفت كل هذا العدد الضخم من الضحايا، فضلًا عن الحصار والتجويع المستمر على مدار الأشهر الماضية؟ وإذا ما وُوجِه مسؤول غربي بهذه الوقائع تلعثم وناور ولم يجد سوى التعبير عن الأسف والكلام الدبلوماسي الغائم!.
إن من شأن العنف الإسرائيلي وموقف دول الغرب منه أن يحملنا على إعادة التفكير في أسئلة العنف ومصطلحاته ومفاهيمه وسياساته؛ بوصفه موضوعًا أو حقلًا يعكس موازين القوة والسيطرة؛ فاللغة التقويمية والتصنيفية هنا هي مظهر من مظاهر التعبير عن السلطة والهيمنة؛ فمن يقرر ما هو صواب هو الأقوى، ومرجعية الحسن والقبح لا تكمن في وجود مرجعيات قانونية وأخلاقية مستقلة عن القوى الكبرى، بل من يحدد الحسن والقبح هي القوة السياسية والعسكرية.
ومن ثم ترسم جغرافيا العنف والإرهاب مواقع السلطة والهيمنة، وتحاول فرض سياساتها باسم محاربة العنف والإرهاب، من خلال نوع الأسئلة التي تناقش، وتوجيه دفة النقاش باتجاه محدد يخدم القوى الاستعمارية؛ التي تهدف إلى إحداث تغييرات فكرية وثقافية عميقة لدى الشعوب المستضعفة لتتمكن من الهيمنة عليها.
ومن ثم فهي لا تتسامح مع مفاهيم حرية هذه الشعوب، واستقلالها ولا تعترف لها بحق المقاومة والدفاع عن النفس، ويصدق هذا على الأفراد كما يصدق على الجماعات التي هي دون الدولة.
فالشعوب يتم ضبطها من خلال الأنظمة السلطوية التي تتولى تسيير مصالح الدول الكبرى، ومؤسسات وهياكل النظام الدولي تبدو عاجزة ومعطلة أمام الإرهاب الإسرائيلي المدعوم أميركيًّا؛ لأن النظام الدولي إنما تضبط إيقاعه القوى الكبرى باتجاه مصالحها وتوافقاتها، والله المستعان.