يُنظر إلى سوق العمل أنه آلية ديناميكية لتفاعل العرض والطلب على العمل وذلك ضمن الظروف الاقتصادية والحالة الاجتماعية والوضع القانوني السائد، مع مراعاة الأدوار والمساهمات لجميع ذوي العلاقة من حكومة ومنظمات المجتمع المدني والأطراف الممثلة للعمال وأصحاب العمل.
كما أنه من الناحية النظرية يفترض وجود حالة من التجانس وأن النمط السائد في السوق قد يكون موحدًا، إلا أن الواقع يخالف ذلك، فثمة تمايز في سوق العمل جغرافياً وقطاعياً وكذلك الجوانب المتعلقة بظروف وشروط العمل، إذ إن كفاءة السوق وإمكانية حصول طالبي العمل على فرص تشغيل تناسب مؤهلاتهم وتوفر الأجور العادلة تتمايز بالطبع من سوق لآخر، فالتحليل الواقعي لسوق العمل المحلي في قطاع غزة يكشف بجلاء عن اختلال مزمن في بنية السوق ما يشير إلى وجود خلل في مركبات السوق ذاتها، وضعف في العلاقات التفاعلية بين تلك المكونات، إضافة إلى قصور في الأدوار والمسؤوليات للجهات ذات الصلة ما يعود إلى أسباب عدة منها سياسية واقتصادية واجتماعية.
فاختلالات سوق العمل هي أحد أوجه وأشكال الاعتلال الاقتصادي والذي تنتج عنه مشكلات التضخم والعجز الاقتصادي والفقر، ويعبر اختلال سوق العمل عن الانحراف الحاصل بين مركبات السوق المتمثلة أساساً في العرض والطلب الذي يظهر بشكل قطاعي أو جغرافي أو حسب العمر والنوع الاجتماعي، حيث يعقب ذلك معضلات البطالة وتدني وتفاوت مستويات الأجور، وتراجع ظروف وشروط العمل اللائق مع اتساع رقعة العمل الهامشي والاقتصاد غير المنظم.
اقرأ أيضًا: العرض والطلب في سوق العمل
اقرأ أيضًا: سياسات سوق العمل
ومن الأنماط السائدة لاختلالات سوق العمل الاختلالات البنيوية التي تعكس حالة الفجوة بين العرض والطلب كمياً ونوعياً، وكذلك الاختلالات القطاعية التي تمثل اختلاف توزيع قوة العمل على القطاعات الاقتصادية المتنوعة، بالإضافة إلى الاختلالات الجندرية التي تعبر عن حالة عدم المساواة بين الرجال والنساء في فرص العمل، ومن ناحية أخرى فإن الاختلالات الأجرية تُعزى إلى التباين الحاصل في الأجور بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتجدر الإشارة إلى الاختلالات الطارئة التي تنتج ردة فعل لحالات تردي السوق الناتج عن الأزمات الاقتصادية والظروف السياسية والأمنية التي يمكن إجراء تدخلات حكومية سريعة لعلاجها والحد من نتائجها وذلك كتنفيذ برامج التشغيل والإعانات، إلا أن القضية تتركز في اختلالات سوق العمل المركبة والمزمنة، وهي محور الحديث هنا.
إن اختلالات سوق العمل بحاجة ماسة لسياسات تداخلية وتكاملية، فسياسة الحد الأدنى للأجور تعد مدخلاً لتصحيح الاختلال الأجري، إضافة إلى سياسات العمل الموجهة التي قد تسهم في التخفيف من وطأة الاختلال الجندري في السوق من خلال دعم دخول ودمج النساء في العمل وبرامج التوظيف ومشاريع التشغيل في القطاعين العام والخاص، وهذا بالطبع ستتبعه تأثيرات اقتصادية واجتماعية وتدابير تخطيط ومأسسة لهذه الرؤى والتوجهات، كما أن الاختلالات البنيوية والمتمثلة أساساً في عدم قدرة السوق على امتصاص العمالة الراكدة أو الوافدة المحتملة، ما يحتاج إلى برامج وسياسات تشغيلية وبرامج تمويلية وذلك كتفعيل سياسة التشغيل الوطنية بالتوازي مع تطوير نظم محدثة ومتاحة خاصة بمؤشرات وإحصاءات وبيانات سوق العمل ما يدعم التخطيط ويسهم برصد جميع التغيرات والاختلالات المحتملة ما يضمن تجنبها أو التخفيف من آثارها، وبالطبع فإن تجويد برامج التعليم والتدريب المهني والتعليم التقني يعمل على المساهمة في المواءمة بين العرض والطلب كماً ونوعاً وهو ما يخفف من الاختلالات البنيوية، ويخفف من نسب تسريح العمالة أو التنقل في العمل ما يسد فجوة الاختلال القطاعي، مع ضرورة تشجيع برامج المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتقديم الحوافز والتسهيلات لمبادرات المسؤولية المجتمعية لمنشآت الأعمال على اختلافها لما لهذا من أهمية في دمج جميع الفئات والتقليل من الاختلالات الجغرافية والجندرية والعمرية، مع التنويه إلى تكليل كل السياسات المشار لها سابقاً بإجراءات تطبيقية لقانون العمل المنظم للعلاقات الصناعية بين جميع أطراف العمل في جميع القطاعات.
وأخيراً فإن لعلاج اختلالات سوق العمل آثارًا اقتصادية واجتماعية مهمة تتمثل في تخفيض نسب البطالة ومعدلات الفقر وتحقيق توازن للسوق الجاذب والمتميز بالكفاءة والفاعلية مع بناء أرضية متينة لتنمية شاملة مستقبلاً.