"بيننا وبين الموتِ ثوانٍ معدودة.. لنرفعه لم يبقَ وقتٌ على موتنا معًا".. هكذا قال نوح الشغنوبي أحد أبطال الدفاع المدني الذين هرعوا أمس بأظفارهم الحديدية وقلوبهم الصّادقة لإنقاذ المصابين في مجزرة دار الأرقم الدامية، لم يكن أمام نوح إلا ثوانٍ معدودة لينقذ شابًا من تحت الأنقاض فيما كانت طائرات الاحتلال تحلق فوقهم لتشن غارةً قاتلة جديدة في مشهدٍ يحبس الأنفاس.
وفي وصف المشهد، يقول الصحفي والناشط مثنى النجار، إن "نوح أحد أبطال الدفاع المدني في غزة، لم يكن ممثلًا في فيلم، بل روحًا من نور، يحفر بالصخر وينازع الوقت والموت، محاولًا إنقاذ شاب عالق تحت ركام مدرسة "دار الأرقم" قصفتها آلة الحرب الإسرائيلية".
ويضيف النجار، "وصلهم تحذير بإعادة القصف... دقائق معدودة تفصلهم عن مأساة جديدة، ومع ذلك، لم يتراجع نوح، لم يتخلَّ، حاول، ثم حاول، وعندما بدا أن الإنقاذ مستحيل، قام هو ورفاقه بوضع لوح فوق الشاب، وسندوه بأعمدة حديدية، استودعوه الله، وغادروا لإنقاذ أرواح أخرى"، مردفًا: "لكن البطولة لا تعرف الانسحاب، بعد لحظات، عاد نوح وأبطال الدفاع المدني، وسط الخطر، بين الركام، وانتشلوا الشاب من الموت. جميعهم خرجوا أحياء، برحمة الله، وبعزيمة لا تنكسر".
وختم بالقول، "هذا ليس مشهدًا هوليوديًا، بل بطولة واقعية تُكتب بدم القلب في غزة، حيث يصنع أهلها من الرماد ملحمة صمود".
وأشاد رواد منصات التواصل الاجتماعي، على نطاق واسع، ببطولة "نوح"، مجمعين على أن الشغنوبي ليس مجرد رجل إنقاذ، بل هو وجه غزة الصامدة، وصوت الإنسان في زمن الوحشية. وفي ظل عجز العالم عن وقف القصف، يبقى أمثاله الأمل الأخير لضحايا يبحثون عن من ينتشلهم من بين الركام، أو يواسيهم في لحظاتهم الأخيرة.
وفي قطاع غزة، حيث لا تهدأ أصوات القصف، ولا تتوقف المجازر، يتقدّم رجال الدفاع المدني الصفوف في معركة غير متكافئة مع الموت.
لأكثر من عام ونصف، أي منذ الإبادة، عمل نوح الشغنوبي على انتشال الأحياء والشهداء من تحت ركام المنازل المدمّرة. لا خوذة متخصصة، ولا أجهزة كشف متقدمة، ولا آليات ثقيلة؛ فقط يدان عاريتان وإرادة لا تلين. في كل مرة يخرج من تحت الأنقاض، يحمل معه قصة حياة أنقذها، أو حكاية وداع مريرة.
يقول نوح في حديثه لإحدى وسائل الإعلام: "عندما أصل إلى موقع القصف، لا أفكر إن كنت سأنجو، كل ما يشغلني هو أن هناك من ينتظرنا تحت الركام.. صوت ينادي، أو جسد يحتاج أن يُكرّم في موته".
يعمل في الدفاع المدني بغزة قرابة 500 إلى 600 شخص فقط، في حين تحتاج المنظومة إلى ما لا يقل عن 2500 فرد لتغطية احتياجات السكان الذين يتجاوز عددهم 2.5 مليون نسمة. تعاني الفرق من نقص حاد في معدات الإنقاذ، وأجهزة التنفس، ووسائل الحماية، ما يجعل كل مهمة مخاطرة حقيقية بالحياة.
وفي وجه آلة القتل، لا يملك نوح سوى إيمانه بقيمة الحياة، وواجبه تجاه شعبه. لم يترك غزة رغم الدمار، ولم يستسلم للإرهاق أو الخوف. بات وجهه مألوفًا للناس، يخرج من بين الأنقاض مغطى بالغبار، يرفع طفلًا، أو يبحث عن أمٍّ مفقودة، أو يواسي ناجيًا ينهار أمام هول الفقد.