من أراد أن يبلغ في العربية مبلغًا عاليًا في الفهم، والفصاحة، ويتدبر أسلوب القرآن وتراكيبه وألفاظه وكلام العرب الأولين، فعليه أن يقرأ كتب عبد الله الطيب، ويترقّى بها، وهو ما أتاحَه لنا الفاضل الحبيب أنس عثمان الذي اجتهد غاية الاجتهاد في جمع كتبه وتصويرها.
إنه نموذج لواحد من آيات الله في الحفظ والذكاء والفهم والتمكّن بعدة لغات، أستاذنا البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله رئيس مجمع اللغة العربية في السودان، ولو لم يكن له إلا كتابه "المرشد في فهم أشعار العرب وصناعتها" الذي كتبه في أول شبابه، واحتار فيه طه حسين متعجبًا لكفاه ... فتأملوا ما قاله بحرص وذهن مفتوح.
ومن كلماته التي لا أنساها مما صغته، أنه لم يكن الحفظ يعني عندنا أن نكون آلة تسجيل أو نسخة كربونية مكررة، بل كان يعني أن نكون قادرين على استحضار المعلومة وتركيزها، ثم تدوير فهمنا عليها، وتفتيحها على معلومات أخرى تنجذب إليها.
اقرأ أيضًا: عن ترجمة شيخ المدرسة التنكزيّة
اقرأ أيضًا: تجربتي في مراجعة مذكرات الأسير حسن سلامة والدخول في عالمه المعزول!
ولقد كان الحفظ عندنا تمرينًا على تحفيز حواس الذاكرة لدينا واستدعاء كل ما يمكن استحضاره عند الحاجة، وكان الخبراء يستغلون صفاء ذواكرنا لتقوية قدرة الحفظ لدينا.
كما لم نقف عند حدود الحفظ البنائيّ التلقيني، بل انطلقنا منه في بناء مسار تأسيسي يقارِن المعلومات وفق نموذج أوليّ، ثم يختار المعلومة الأفضل، ولم نكن نبالي أن ننسى ما حفظناه أولًا لنضع مكانه معلومة أخرى أثبت وأقوى، بل إننا كثيرًا ما تعمدنا نسيان أشياء حفظناها، ووضعنا مكانها حشدًا من المعارف والقيم والمناهج والمعارف التي استطعنا أن نختزلها في خلاصات سريعة علّمتنا إياها طريقة الحفظ.
وعندما استوعبنا ما حفظناه باتت لدينا قدرة أكبر على الفهم والنقد، وشعرنا أننا أكثر تدفقًا وقدرة من العطاء من غيرنا الذين يستخدمون المدخل الأسهل في التلقّي دون عناء. ولم نكن سواء في ذلك، فهناك من كان يبرع في الحفظ والفهم، وهناك من يبرع في الفهم، وقلة منا من استطاع أن يحفظ ويبقى حافظًا دون أن يستوعب بعض ما يحفظه.