عندما اتصل بي سعادة الدكتور محسن صالح المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات لأتولى مراجعة مذكرات خاصة كتبها الأسير حسن سلامة عن سنوات عزله الطويلة، وطلب إليّ أن يكون ذلك الأمر سريعاً فإنني لم أتعجّل الردّ، وطلبت منه مهلة لأطالع الكتاب قراءة مسْحيّة أولاً حتى أتخذ قرار المراجعة والمدة التي يحتاجها، وبعد المطالعة وإبداء الرغبة افترضت أنني أحتاج إلى شهر لأنجزها نظراً إلى وظائف أخرى أقوم بها كان لها الأولوية في الأداء، ولكنني عندما بدأت النظر العميق في هذه المذكرات وجدت نفسي مندفعاً لإنجازه في أقل من الوقت المقدّر حيث منحتُه بعض أوقات الراحة المثالية عندي.
فقد تبيّن لي أننا لسنا هنا أمام مذكرات يكتبها شخص ذو تجربة خاصّة مختلفة، وإنما هي شهادة تاريخية موثقة عن واحدة من أندر التجارب الإنسانية الفرديّة التي تعرّضت للتوحّش الجماعيّ المؤسسي من كيان يحترف التدمير المنهجيّ على مدار سنوات طويلة، يتعرض فيها المرء المعزول في زنزانات العزل بانتظام وتواصل عنيف لتجريده من كل ما يُشعره بالبقاء أو الرغبة في الحياة، يتمنى فيها هذا المرء الموت ولا يموت، ويبحث عن أيّ سبب يجعله يشعر بأنه ما زال حيّاً، وأنّ ما حوله بشرٌ؛ هي تجربة عميقة تحتاج إلى دراسات نفسية معمّقة، وأظنّ أن الباب انفتح عليها بوضع هذه الشهادة الشخصية على طاولة البحث والنظر.
وقد كان التكليف بتحرير هذا الكتاب من اللحظات الجادّة المهمّة التي أشعرتني بمسؤولية خاصة في التعامل مع هذه الشهادة الطويلة المفصّلة، التي ضغطت آلاف الأيام في هذه الصفحات بقلمٍ موجوع؛ وقد انهمكتُ فيه من الساعة الأولى، وقرأته مرات قبل أن أقرر الطريقة التي سأتّبعها في تحرير هذه المذكرات الخاصة التي آمل حقاً أن تتحول إلى عمل تلفزيوني ضخم في منصات كبيرة؛ لكثرة التفاصيل والأحداث المثيرة والعميقة والمحطات الغريبة والصادمة التي تقدّمها. وكان لا بدّ لي من وضع دليل تحريريّ أستهدي به في تقديم هذه الوثيقة الحساسة؛ وقد اجتهدتُ في ذلك على قدر استطاعتي وخبرتي في أعمال شبيهة وقفت عليها، ووضعتُ لنفسي خريطة منهجيّة في تحرير هذا الكتاب، فأنا:
1. لم أتدخّل أبداً في محتوى هذه الشهادة، ولم أحجب شيئاً منها، وقدّمتُها كما وصلتني، وكما أرادها صاحبها، والمعنيّ بنشرها.
2. حرّرتُ مواضع التحريف والتصحيف في عشرات الكلمات، والتي كان يمكن أن تسبب التباساً واضحاً مثل: (عندنا= عندما؛ السوريّ= السرّيّ؛ الجاد= الجد…).
3. أدخلت الكثير من التصحيحات والتعديلات النحوية الواجبة، وقد التزمتُ بذلك إلا في المواضع التي شعرتُ أن صاحبها يريدها أن تكون مكتوبة على صورتها مثل الألفاظ المحكيّة، والكُنى، وبعض الأمثال، أو ما وردتْ في سياق عامّيّ محض.
4. لم أتدخّل في النمط الأسلوبي الذي كتبه صاحب المذكرات، فقد كتبه بلغته الخاصة التي مزج فيها التركيب الفصيح بالتركيب العاميّ، إذ كان يكتب بلغة خِطابه المستخدمة في حياته اليوميّة مع تغليب للأسلوب الكتابيّ الفصيح، وعلى الرغم من أنها قد تبدو صعبة على غير العارف بالتركيب العامي في الشام وفلسطين إلا أن المرء يمكنه التعوّد عليها بسهولة لكثرة التكرار المُفهِم للأسلوب؛ وقد وجدتُ أن إعادة كتابة النصّ وتحريره بالأسلوبيّة الانتقائية وبعربية فصيحة سيُفقده روحه وتلقائيّته وسينقله إلى عالم المحرّر ولغته، فاخترت الحفاظ على فضاء الكاتب الأصليّ وجوّه، وهو خيار قد نلجأ إليه في عالم التحرير لخصوصية النص وعمق تجربته النفسية؛ ويمكن للباحث بسهولة أن يكتشف خصائص هذا الأسلوب وبناءه التركيبي دون تكلّف أو عناء، خصوصاً بما يتعلق بالتقديم والتأخير، ووضع أفعال وأسماء مساعدة مثل (تمّ، فعلاً، يعني…)، واستخدامات حروف الجر، وكثرة الأساليب العامّيّة والألفاظ العامّيّة.
5. لم أتدخّل أيضاً في الألفاظ التي يُعدّ استخدامها على صورتها من الأخطاء الشائعة، فقد اعتبرتها من الأسلوب الذي ينبغي المحافظة عليه، كما أن لدى كثير منها وجهاً في العربية مقبولاً عندي، وإن كان ضعيفاً عند بعضهم.
6. أدخلتُ علامات الترقيم في بنية المادة ليستبين مرادها، وتسْلم من اللبس والتداخل، وحاولت جاهداً أن تكون منسجمة مع المعنى المقصود، ولم أتردد إلا في بضعة مواضع، ثم حسمتها بالمشورة من أهل الاختصاص، وأتمنى أن يكون النص بهذه الطريقة صار أسهل في القراءة بعد أن كان شديد التداخل بين جُمله.
7. لعل التغيير الوحيد الذي التزمت بتثبيته هو تسمية السجناء الجنائيين من اليهود والعرب بالأسرى، فقد كان قلم حسن سلامة يسبقه فيما درَج على لسانه من تسمية هؤلاء بما هو مخصوص بأسرى المقاومة الفلسطينية، علماً أن الكاتب كان يتنبّه أحياناً قليلة إلى ذلك فيكتب في وصفهم سجناء وليس أسرى.
8. ضبطت بعض الكلمات بالحركات إذا شعرتُ أن ثمة لبساً قد يحْدث إذا تُركت دون توجيهٍ ضابطٍ.
وهنا ألفت النظر إلى بعض القضايا في هذه الشهادة أو المذكرات:
1. أن ما كتبه حسن سلامة لم يكتبه في جلسات متصلة، بل كتبه على فترات متباعدة، وكان يفقدها في أثناء التنقلات، أو يُتلفها في بعض المحطات النفسيّة الصعبة عليه، أو كان العدوّ يصادرها في تفتيشاته التي لا تنتهي، أو كان يبدأ بها ثم يرميها؛ وقد كادت هذه الشهادة الموثّقة أن تموت لولا أن خطيبة حسن سلامة الأسيرة المحررة غفران زامل قد شجّعته، وساعدته على تنفيس ضغوطه النفسية بالكتابة في هذا الموضوع الذي عاناه سنوات طويلة.
2. ونتيجة لهذا التباعد فسنجد تكراراً في بعض الموضوعات، وإعادةً لبعض الأحداث، ولكن الجيد في هذا الأمر أن كل إعادة تتضمن تفاصيل جديدة.
3. كما سنجد تدفّقاً في بعض القضايا المكتوبة في مجلس واحد على ما يبدو، فيما تبدو قضايا أخرى سريعة الحضور فقيرة التفاصيل رغم أنه كان يتوسع في مثيلاتها في مواضع أخرى.
4. كُتبت هذه الشهادة في جغرافيات متعددة، ويجمع بينها أنها داخل خريطة السجون الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، وتحديداً في أقسام العزل العديدة التي دخلها الكاتب كلها؛ وهي ذات ظروف قاسية بائسة جداً، تتنافس مع بعضها في شدة الإساءة والإهانة والقذارة والضيق والتوحّش والشعور بالاغتراب.
5. ونتيجة لهذه الظروف فقد كان الأسير حسن سلامة يكتب من ذاكرته التي كانت تتعرّض للاجتياح اليوميّ في ظلّ ظروف غير طبيعية كانت تتجه بكل أسير معزول إلى حالة من الجنون أو المرض النفسيّ المزمن عند محاولته التكيّف مع ظروف العزل، ولم يكد يخرج من هذه الحالة المرضية سوى نفر قليل حباهم الله بغريزة بقاء قويّة، وقوّة نفسية إيمانيّة هائلة هَضمتْ هذه التوابع النفسية الجائحة.
6. هذه الشهادة هي من النوع التقريري الوصفي في مضامينه ومحتواه، وليست رواية أدبية بل هي حقائق واقعية مغموسة بالعاطفة الحسّاسة والانفعالات القويّة، وقلّما تجد فيها مقاربات فنية وتشبيهات بلاغية إلا لتقرير الحالة أو تأكيدها، أو محاولة تعميق الحضور النفسي فيها.
7. لم تتناول الشهادةُ العمليات العسكرية التي قام سلامة بتنفيذها ثأراً للشهيد المهندس يحيى عيّاش، ولا تفاصيل حياته الشخصية في خانيونس وقطاع غزة، ولا تاريخ خروجه من فلسطين سنة 1993 إلا في سطور سريعة خاطفة، والاستثناء الوحيد كان في ملحق الكتاب في أثناء تقريره عن زيارته لأخيه أكرم في مستشفى سجن الرملة، حيث تحدث عن ظروف تسليمه من جانب أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وتفاصيل اعتقال أجهزة الأمن الإسرائيلية له.
8. هناك شخصيات مفصلية كثيرة ورد اسمها في سياق هذه الشهادة يمكن أن تثري أيّ بحث متخصص في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر وشخصياته المؤثرة، كما أن فيها معلومات عن فصائل فلسطينية عديدة أكثرها وروداً حركة حماس، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم حركة فتح، ثم الجهاد الإسلامي، حسب ترتيب كثرة التفاصيل، كما ورد حديث في موضع واحد عن أحد الأسرى المرتبطين بفكر القاعدة أو “الدولة الإسلامية (داعش)”؛ والذي كان يمثّل مستوى عالياً من التطرّف الفكري في السجن.
وأقترح على الباحثين هنا بضع قضايا أجد أنها جديرة بالبحث العميق ومقارنته بكتابات شبيهة في هذا الباب الذي يخصّ قضية العزل ومسائله المرتبطة به:
1. التأقلم مع واقع العزل، ونتائجه السلبية والإيجابية على حياة المعزول.
2. الانفعال بالمحيط الحيويّ للمعزول وكيفية التجاوب مع الكائنات الحيّة (حشرات، طيور، قوارض،…) ومع الطبيعة المحاصَرة (أشعة شمس، ضوء قمر، صوت الريح،…).
3. العزل بوصفه أداة عقابية تحوّل المعزولين إلى مرضى نفسيين في مستشفى للأمراض النفسية غير مجهّز لعلاج أحد.
4. كيف يتحوّل العزل لدى بعضهم إلى فلسفة عميقة تعينهم على تجاوز واقعهم.
5. المهارات التي يبدع المعزول في اكتشافها، وتعلّمها، وتطويعها، وفي تطبيقها.
6. الأسلحة التي يمتلكها المعزول لمواجهة واقعه (الإضراب، الاحتيال الذكيّ، البحث عن الثغرات، الهروب من الواقع بشكل إيجابي أو سلبيّ،…)
7. مجتمع المعزولين وكيفية إدارة التواصل فيما بينهم، ومحاولة إيجاد روابط رفيعة باستخدام كل فرصة للتواصل في أي مستوى (التواصل بين الأسرى الأمنيين، التواصل مع السجناء الجنائيين من اليهود والعرب، التواصل مع المرضى النفسيين المحتاجين لرعاية، الأضرار الناشئة عن هذا التواصل، التواصل مع إدارات السجون وسياساتها القائمة على الكذب والضغط وإخلاف المواعيد…، كيفية عقد المشاورات في ظروف العزل؛ وعرض بعض تجارب التواصل المضحكة مثل ما يسميه الكاتب هنا “فيسبوك العزل” عبر فتحات شبابيك الحمامات).
8. كيف يؤثر التواصل الخارجي النشط على نفسية المعزول ويحفّزه؛ وهنا لدينا تجربة عاطفية غنية بالتفاصيل تتعلق بـ”غفران زامل” التي اختارت رفيق حياتها في قصة مثيرة، وعقدت قرانها عليه دون أن تلتقيه، وظلت وفية له لسنوات طويلة لا تجمعهما إلا عاطفة مكتوبة في رسائل ينقلها الصليب الأحمر أو مكالمات هاتفية مخطوفة، أو همسات خجولة عبر أثير إذاعة الأسرى، وهي العلاقة التي غيّرت مجرى حياة هذا الأسير، وجعلت له أملاً شاغلاً يؤمن به إضافة إلى معتقداته القوية التي ثبتته؛ كما أن لدينا تجربة غنية أخرى تتعلق بوالدة الأسير حسن سلامة ودورها في تثبيته، ولا شكّ أن هذه الأمّ قد أعطت ابنها زاداً روحيّاً هائلاً رفع من قدرة حسن سلامة على البقاء والنهوض، وهي التي حُرمت من زيارة ابنها المعزول لنحو 12 عاماً.
9. هناك فرصة لدراسة فلسفة الوحدة الإجبارية وعلاقتها بمفاهيم الاعتزال والاغتراب، ولا شكّ أن حدود هذه الفلسفة ستكون مثيرة في تحليلاتها وتقديراتها.
10. العلاقة مع الوافد الخارجي (الصليب الأحمر، المحامين، الكتب والروايات المسموح بها، قنوات التلفاز المسموح بها،…)، وما الذي كانت يضيفه حقاً في حياة الأسير المعزول.
11. البحث في عزلة العزل، وهي العقوبات المفروضة على المعزول حال مخالفته للأوامر المشددة، والإجراءات المضاعفة المطبّقة عليه.
12. كيف يتلقى المعزول نبأ حرمانه من الحرية في الوقت الذي يكون متأكداً تماماً من شموله به، وكيف يتعامل مع هذا الظرف الشديد عليه؛ وهي فرصة ليتعرف الباحثون على جانب من مفاوضات صفقة وفاء الأحرار سنة 2011 من زاوية بعيدة لم يكتب فيها الناس من قبل.
13. المصطلحات الخاصة بعالم العزل، وإنشاء لغة تواصل داخلية خاصة استناداً إلى هذه المصطلحات.
14. أقسام العزل في السجون الإسرائيلية ومقارنتها بمثيلاتها لدى الأنظمة الفاشية والديكتاتورية والعنصرية، مع الأخذ بعين الاعتبار التصميم الهندسي لهذه السجون وأقسام العزل فيها، وكيف صُمّمت لزيادة الضغط على المعزولين وتحويل المكان إلى غرفة تعذيب يوميّ.
وفي العموم، فقد أتاح لي هذا التحرير أن أقف على عمق هذه التجربة وأوجاعها وتفاصيلها المفزعة، وزادني إيماناً بوجوب العمل على تخليص هذه الفئة خاصة من واقعها، ومساعدة الأسرى بكل ما يمكن للتخفيف من أسرهم الظالم وصولاً إلى تحريرهم الكامل، كما مكّنني أكثر من الاقتراب من شخصية هذا المجاهد الفدائيّ الذي كان حديثَ الناس ومحل إعجابهم وإكبارهم في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ورأيت فيه من خلال هذه الشهادة رجلاً نقيّاً مبادراً نظيفاً مرتّباً خدوماً حنوناً عنيداً عاقلاً باسماً منصفاً حليماً.
فكّ الله أسر المجاهد البطل حسن عبد الرحمن سلامة وأسر إخوانه وأخواته، وأقرّ أعينهم بعيش كريم حرّ بين أهلهم!