بيني وأخي الشيخ الدكتور محمد خالد كُلّاب المُبحِّث في الحديث، والنِّقَاب المفتِّش في علومه وتراجمِ أعيانه... وَشِيجة قديمة لا وَتِيرة فيها، رغم أنّ يميني لم تصافح يمينه، ولم تلتمع عيناي ببريق عينيه في مواجهة قطًّ، وقد أسعدني قبل نحو عام بأن أكتب تصديراً لكتاب جديد له مع البحّاثة المقدسي الشيخ يوسف الأوزبكي يترجم لصاحب كتاب "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" شهاب الدين أبي محمود المقدسي شيخ المدرسة التنكزية في القرن الثامن الهجري الذي خلَف فيها شيخها الإمام خليل بن كيكلدي العلائيّ، وهي المدرسة التي أنشأها نائب الشام تنكز الناصري عام 729ه عند باب السلسلة.
والشهاب أبو محمود كان من تلامذة الإمام الذهبي أيضاً، والطريف أن ابنته كانت من شيوخ أئمة كبار كابن حجر العسقلاني وابن فهد. ولأن الشهاب عاش أكثر حياته في القدس فإنك تراه شديد التعلق بها وبأخبارها فكتب عن أخبار تميم الداري وقومه الذين ينتمون إلى الخليل في جنوبي القدس، وعن أحاديث المعراج، وانتقى من كتاب فضائل بيت المقدس لأبي المعالي ابن المرجّى المقدسي وهو من أنفس الكتب المسندة في هذا الباب، ولكن الكتاب الذي اشتهر به الشهاب المقدسي ونال عناية الناس واهتمامهم هو كتاب "مثير الغرام".
وأكثر ما يلفت النظر في هذا الكتاب هو العناية الفائقة بصحيح البخاريّ، وكان الاهتمام به سماعاً وتصحيحاً وضبطاً ومقابلة ونسخاً قد ازداد جداً في القدس، التي كان فيها منه نسخ للمزي والميدومي والمنذري والرملي...، ونجد الشهاب يقرؤه على عديد من شيوخه عدة مرات، كما يأتيه الناس من كل مكان لسماعه عليه، وكان من جملة من سمعه عليه مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط، وتقي الدين القلقشندي.
ولم يكن هذا المجلس مختصاً بطلبة الحديث والمتشرّفين بحمل الأسانيد، فقد كان يحضره مسؤولوا القدس ونوابها وقيادتها من سلك القضاء والأمن ووكلاء الجاليات وممثليهم وأهل القدس والزائرين والمقدّسين لحجّتهم وأئمة المسجد الأقصى وخطباؤه وكان مفتوحاً للرجال والنساء والأطفال... وبالتالي فإن مجلس السماع بات من الأحداث المشهودة والمناسبات المذكورة التي يجتمع عليها الناس، بل كان من أسباب الإقامة الطويلة في القدس
ولم يكن هذا السماع في المدرسة التنكزية فحسب، بل سجلت متابعات الأستاذين هنا تلك المساحة الجغرافية الواسعة التي تتحرك فيها هذه المجالس، مما يؤكد شعبيّتها، فقد جلسوا للسماع في الخانقاه الدويدارية عند باب شرف الأنبياء، وهي خانقاه صوفية وقفها النائب الشهير علم الدين سنجر الجاولي في أواخر العصر الأيوبي، ورصدنا سماعاً في المدرسة الملكية أو مدرسة الجوكندار التي بنيت عام 741 على يد الحاج ملك الجوكندار الناصري فوق الرواق الشمالي بالمسجد الأقصى بين المدرسة الفارسية والمدرسة الأسعردية.
وهناك سماع في الخانقاه الفخرية، ومسجد المغاربة وعند باب حِطّة ولدى قبة المعراج وعند قبة السلسلة وباب السلسلة وفي رواق الكريميّة وفي صدر المسجد الأقصى وفي الزاوية الختنية ومدرستها التي كشفت السماعات فيها معلومات جديدة عن واقفها ذكرها المؤلفان.
وكانت قبة الصخرة أشرف المواضع التي يقرؤون فيها صحيح البخاري والكتب المسندة الأخرى.
ولم تكن هذه الجغرافية مقتصرة على القدس، بل تحركت صوب الجغرافية المحيطة ولاسيما في سماع الأجزاء التي تتعلق بهذا المكان، فقد سمع الشهاب عن شيخه العلائي مثلاً جزءاً في ذكر كليم الله موسى وما يتعلّق بقبره سنة 735ه، وذلك في الموضع المسمى اليوم بالنبي موسى قرب أريحا في برّيّة القدس، كما كانوا يسمعون أجزاء في موضوع نبي الله إبراهيم الخليل وما يتعلق بقبره في مسجد الخليل؛ ومن طرائف ما تثبته السماعات أن هذه المجالس كانت في البيوت أيضاً، ومن ذلك ثبت السماع بمنزل أسد الدين محمد بن محمد الهكّاري الطوريّ الذي كان يسكن في جبل الطور في ظاهر القدس.
وفي العموم فإن هذه الترجمة مختلفة جداً عما كنا نقرؤه من التراجم فقد استخرجها الباحثان من قلب السماعات المخطوطة وانتزعا منها مداخل لبحوث جديدة في علم الاجتماع وفن التاريخ المتعلق بالقدس، وأتمنى حقاً أن يطالع المحبّون للدراسات المقدسية هذا الكتاب ليعرفوا قدر الفائدة المغموسة فيه.
(المدرسة التنكزية اليوم مركز أمني يدير منه المحتلّ سلطته على المسجد المقدس الأقصى، وتحوّل إلى موضع تعبُّد لطائفة من القطعان الشاردة المجنونة المتسللة في الظلام).