يعيش الشعب الفلسطيني هذه الأيام ذكرى مرور ثلاثين سنة على توقيع اتفاقية أوسلو، تلك الاتفاقية التي بدأ الترويج الإعلامي لها في مؤتمر مدريد الذي تم عقده في العاصمة الإسبانية سنة 1991م، بعد فشل كيان الاحتلال في القضاء على الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أرهقت الاحتلال سنوات، وأعادت للقضية الفلسطينية حضورها الدولي، ومثّلت نقطة تحوّل كبرى في تاريخ النضال الفلسطيني.
ثلاثون سنة من المرارة والمعاناة بدأت فعليًّا في التاسع من سبتمبر من عام 1993م، بتوجيه الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك خطابًا رسميًا إلى رئيس وزراء الاحتلال المجحوم إسحاق رابين، ألزم فيها الفلسطينيين بالحل السلمي للصراع، ووافق على ترحيل جميع القضايا والحقوق التي تمثل جوهر القضية الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات اللانهائية، وأدان فيها الإرهاب وجميع أعمال العنف في إشارة مسيئة للكفاح المسلح الذي مارسه الفلسطينيون طيلة عقود مضت، وتعهد بإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تُنكر حق الاحتلال في الوجود فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وإلزام الفلسطينيين بتلك التعهدات المهينة، مقابل مخاطبة تلقاها لاحقًا من رابين أقرّ فيها بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني!
إن تلك الخطابات بما احتوته من عبارات مسيئة للفلسطينيين، ومهينة للنضال الفلسطيني، والتضحيات الجسام التي قدمها الفلسطينيون طيلة عقود من الكفاح المسلح؛ سعيًا نحو الحرية والاستقلال، كانت هي البداية الفعلية لاتفاقية أوسلو، التي تم توقيعها في العاصمة النرويجية أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر من العام 1993م، أي بعد تبادل تلك الخطابات بين منظمة التحرير وكيان الاحتلال بأربعة أيام فقط!
من عايش مرحلة توقيع اتفاقية أوسلو من الفلسطينيين، يدرك جيدًا حجم الأوهام والأراجيف التي تم بثُّها بين الفلسطينيين آنذاك، إذ تم تصوير تلك الاتفاقية المهينة إعلاميًّا بأنها بداية تحرير الأرض الفلسطينية، وعودة اللاجئين، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، ومن أجل تحقيق تلك الأهداف الفلسطينية الكبرى، ارتضى بعض الفلسطينيين أن يضعوا أيديهم في يد الاحتلال، ليتعاونوا معه في ملاحقة الثوار والمقاومين، واعتقال المعارضين الرافضين لتوقيع تلك الاتفاقية، وتضييق الخناق عليهم، بل وممارسة القتل بحق البعض منهم، لبث الخوف والإرهاب في نفوسهم، وشهدت حقبة تسعينيات القرن الماضي انكفاءً مؤقتًّا في حالة النضال الفلسطيني نتاج تلك الملاحقات المزدوجة، وعزوفًا من مؤيدي أوسلو عن مقاومة الاحتلال بأي وسيلة متاحة.
اقرأ أيضًا: هل اتفاق أوسلو مشروع تصفوي؟
اقرأ أيضًا: عن أوسلو والتحولات في المجتمع الفلسطيني
واليوم أدرك الجميع حالة الغُبن السياسي التي عاشتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إبّان توقيع اتفاقية أوسلو، وكيف نجح الاحتلال من خلال تلك الاتفاقية الدولية في تقييد الفلسطينيين، وغرس بذور الفرقة السياسية والانقسام المجتمعي فيما بينهم، وكيف استطاع من خلال تلك الاتفاقية تحقيق مكاسب سياسية جمّة، ما زال يجني ثمارها على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل استمرار احتلاله العسكري للأرض الفلسطينية، وتواصل معاناة الفلسطينيين دون وجود أي آفاق لحلول سياسية مستقبلية للقضية الفلسطينية.
لقد نجح الاحتلال الإسرائيلي في أوسلو بمساعدة أنظمة عربية، وإسناد أمريكي أوروبي في إغراء قيادة منظمة التحرير للدخول في أتون دوامة لا نهائية من المفاوضات العبثية، وسلسلة طويلة من اللقاءات الماراثونية، وبيع الأوهام للشعب الفلسطيني بقرب التوصل إلى تسوية سلمية، وإيجاد حلول سياسية للصراع، وغيرها من الشعارات الزائفة البراقة، إذ بدأت دوامة الأوهام والحلول السياسية في مؤتمر مدريد سنة 1991م، ثم توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993م، ثم توقيع اتفاقية باريس الاقتصادية التي كبلت الاقتصاد الفلسطيني سنة 1994م، ليتبعها توقيع اتفاقية غزة أريحا بعد أيام قليلة فقط، ثم توقيع اتفاقية طابا سنة 1995م، وصولًا إلى نهاية الفترة الانتقالية كما توهّم الفلسطينيون، فكان توقيع اتفاقية واي ريفر الأولى سنة 1998م، والثانية سنة 1999م، ثم مقترحات ميتشل سنة 2001م، وخارطة الطريق سنة 2002م، واتفاقية المعابر سنة 2005م، وإعلان أنابوليس سنة 2007م، وصولًا إلى صفقة القرن التي بددت أوهام الفلسطينيين سنة 2017م، حين تمخض جبل المفاوضات العقيمة عن دولية فلسطينية منزوعة السلاح، تعيش في كنف الاحتلال الذي سيستمر في احتلال القدس، والهيمنة العسكرية على موارد الفلسطينيين وأرضهم، بلا عودة للاجئين إلى أرض فلسطين.
من ينظر إلى النتائج الكارثية التي حصدها الفلسطينيون من توقيع اتفاقية أوسلو يرى العجب العجاب، فتشتت الفلسطينيون سياسيًّا وجغرافيًّا، ما بين فلسطيني في الضفة يعاني سطوة الاحتلال، واعتداءات المستوطنين، وآخر في غزة يعاني الحصار العسكري والاقتصادي، وثالث في الداخل المحتل يصارع من أجل عروبته وهويته الفلسطينية، ورابع يناشد الدعم للدفاع عن القدس والأقصى، وخامس يعيش خارج فلسطين، ينتظر ساعة العودة إليها، ليغادر حياة البؤس في مخيمات اللجوء التي تفتقد لأدنى مقومات الحياة.
وسياسيًّا فتحت اتفاقية أوسلو الباب على مصراعيه أمام التطبيع العربي مع الاحتلال، فوجد الاحتلال فرصة ذهبية لتسويق نفسه أمام الدول والشعوب العربية، فحصد توقيع اتفاقية وادي عربا مع المملكة الأردنية، واتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب، واستغل الاحتلال تلك الاتفاقية المهينة في تبييض صورته القاتمة أمام المحافل الدولية، فبات يُنظر دوليًّا للقضية الفلسطينية بأنها عبارة عن صراع ونزاع سياسي بين طرفين، وتغافلت الدول الكبرى عن معاناة اللجوء الفلسطيني الممتدة منذ عقود.
من جهة أخرى حصد الشعب الفلسطيني نتائج الفشل الذريع لقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وما زالت تلك القيادة العاجزة تتمسك بأوهام المفاوضات العبثية، دون إدراك منها بأنها باتت جزءًا من الماضي المؤلم، فقد عفا عليها الزمن، وباتت اليوم فاقدة لأي تأييد أو احتضان فلسطيني على الصعيدين النخبوي والشعبي، فهي تتحمل مباشرة مسؤولية الانقسام الفلسطيني الذي بدأته بتوقيع اتفاقية أوسلو، وتراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وتردي أوضاع الفلسطينيين، وفقدان التأييد الدبلوماسي لحقوقهم، والدفاع عن معاناتهم أمام المحافل الدولية.
وإنسانيًّا غيبت اتفاقية أوسلو حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة حين تنازلت قيادة منظمة التحرير عن 78% من الأرض الفلسطينية، وأتاحت الحماية للمستوطنين لمواصلة اعتداءاتهم على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية محتلة، ونكصت عن مواجهة حكومات الاحتلال المتعاقبة في تهويد القدس والمقدسات، ومصادرة الأراضي والعقارات الفلسطينية، وصمتت كالأموات تجاه محاولات الاحتلال تدجين الفلسطينيين في الداخل المحتل، وتناست مسؤولياتها السياسية والقانونية تجاه الكل الفلسطيني في الداخل والخارج على حدٍّ سواء.
واقتصاديًّا بات الاقتصاد الفلسطيني تابعًا للاحتلال، إذ كبلت قيادة منظمة التحرير الشعب الفلسطيني بتوقيعها اتفاقية باريس سنة 1994م، وارتضت للاحتلال أن يتحكم في الاقتصاد الفلسطيني، ويقرر متى شاء وكيفما شاء السياسات الاقتصادية التي عززت من هيمنته على الاقتصاد الفلسطيني، ما أتاح له المزيد من القدرة على ابتزاز الفلسطينيين، وسرقة أموالهم لصالح الاستيطان والمستوطنين، وبرزت القطط السمان، التي ربطت مصيرها بالاحتلال وتعاونت معه اقتصاديًّا، ما أرهق الاقتصاد الفلسطيني.
إن الحديث عن النتائج الكارثية لاتفاقية أوسلو يطول كثيرًا، ولا مناص أمام الفلسطينيين سوى التراجع عن توقيع تلك الاتفاقية، وسحب اعترافهم بالاحتلال والإقرار بأمنه فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، واستعادة الوحدة الفلسطينية من جديد، واستنهاض شتات الفلسطينيين في الخارج، وتفعيل جميع ساحات الصراع في مواجهة الاحتلال، واستعادة التمسك بالكفاح المسلح كأحد الوسائل المهمة في مسيرة النضال الفلسطيني، سوى ذلك ستبقى القضية الفلسطينية تعيش في أتون التراجع والانحدار نتيجة خطيئة سياسية خبيثة اسمها "اتفاقية أوسلو".