زاوية الرؤية تختلف من جهة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، فاتفاق أوسلو الذي يراه البعض أنه اتفاق مشروع تصفوي للقضية الفلسطينية يراه آخرون أنه يساهم في الحفاظ على الهوية، ويساهم في بناء الدولة الفلسطينية.
فما اتفاق أوسلو؟ وكيف من الممكن أن نحكم على الاتفاق بأنه مشروع تصفوي أو اتفاق يخدم المشروع الوطني الفلسطيني؟
اتفاق أوسلو وقّع عام 1993م في العاصمة الأمريكية واشنطن بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان العبري الذي نعيش الذكرى الثلاثين لتوقيعه، إذ وقَّع إسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك مع ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وثائق الاعتراف المتبادل، وبموجبها اعترفت المنظمة بما يسمى دولة (إسرائيل) مقابل اعتراف الكيان العبري بالمنظمة ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، وانسحب الكيان من بعض المناطق الآهلة بالسكان في قطاع غزة وأريحا ثم مناطق من الضفة الغربية، وتحملت السلطة الفلسطينية بدعم إقليمي ودولي أعباء إدارة الحكم من تعليم وصحة وأمن ... إلخ، ما يرسّخ مفهوم الاحتلال الناعم، إذ أصبح الاحتلال الإسرائيلي أرخص احتلال عرفه التاريخ المعاصر.
نعود إلى التساؤل الثاني في هذا المقال، وهو: كيف من الممكن أن نحكم على الاتفاق بأنه مشروع تصفوي أو اتفاق يخدم المشروع الوطني الفلسطيني؟
الثابت للشعب الفلسطيني ولشعوب الأمة أن ما تسمى دولة (إسرائيل) هي "دولة" احتلال وعدو للشعب الفلسطيني، مارست ضده أبشع الجرائم، وعليه إن وحدة القياس لأي اتفاق سياسي مع تلك "الدولة" ينبغي أن توضع على ميزان أهم مرتكزات ديمومة وصيرورة الكيان العبري، وهي الأمن والشرعية، ولإسقاط اتفاق أوسلو على مرتكزَي الأمن والشرعية ينبغي تحديد أثر اتفاق أوسلو في أربعة ثوابت: تأثير أوسلو في العلاقات الخارجية للكيان العبري، وتأثيره في الأرض والموارد، وتأثيره في السلطة الفلسطينية دورًا ووظيفة، وتأثيره في العامل الداخلي الفلسطيني.
أولًا: تأثير اتفاق أوسلو في العلاقات الخارجية للكيان العبري (الأمن والشرعية)
ساهم اتفاق أوسلو بتعزيز علاقات الكيان الخارجية، ولا سيما في القارة الإفريقية، فعندما عقد مؤتمر مدريد (للسلام) عام 1991م بلغ عدد الدول الإفريقية التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الكيان 30 دولة، وبعد توقيع اتفاق أوسلو وصل عدد الدول إلى 48 دولة إفريقية تقيم علاقات دبلوماسية، وتجسّدت تلك العلاقات الثنائية بين الدول الإفريقية والكيان بما يعزز من شرعيته ككتلة تصويتية في المحافل الدولية، ويعزز أمنه بمراقبة البحر الأحمر والمساس بالأمن المائي لمصر والسودان عن طريق سد النهضة في أثيوبيا، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية وغيرها من المكاسب التي تعزز من أمن وشرعية كيان الاحتلال.
ثانيًا: تأثير اتفاق أوسلو في الأرض والموارد.
قيادة منظمة التحرير باتفاق أوسلو تنازلت عن 78% من فلسطين التاريخية وما بها من موارد، وقبلت بـ22% فقط، حتى إن اتفاق أوسلو لم يحافظ على القليل الذي قبلته قيادة منظمة التحرير التي تمثل جزءًا من الشعب الفلسطيني، ولا سيما بعد توقيع هذا الاتفاق، فعلى صعيد الأرض والموارد سأكتفي ببعض المؤشرات الرقمية المنشورة عن واقع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967م:
اقرأ أيضًا: فلسطين وعنق زجاجة أوسلو
اقرأ أيضًا: في ذكرى أوسلو.. أو الانتصار الجديد لـ(إسرائيل)!
عدد المستوطنين في الضفة المحتلة عام 1993م (تاريخ توقيع أوسلو) 116 ألف مستوطن، في حين عددهم في القدس عام 1993م ما يقارب 144 ألف مستوطن.
في حين وصل عدد المستوطنين في الضفة المحتلة وشرقي القدس مع مطلع عام 2023م (بعد 30 عامًا من توقيع أوسلو) 726 ألف مستوطن.
نسبة الزيادة في عدد المستوطنين والاستيطان بلغت 350% في أراضي السلطة الفلسطينية التي مساحتها أصلًا 22% من مساحة فلسطين التاريخية، وبخصوص مواقع المستوطنات فإنها أقيمت على أعالي الجبال وفوق آبار المياه العذبة والأراضي الخصبة، ما يعني استيلاء الاحتلال على الموارد الفلسطينية.
ثالثًا: تأثير اتفاق أوسلو في دور ووظيفة السلطة الفلسطينية.
اتفاق أوسلو وملحقاته ألزم السلطة الفلسطينية بأن تكون سلطة خاضعة للابتزاز، بموجب العديد من الاتفاقيات التي تسمح للكيان بابتزازها وتغيير دورها ووظيفتها من سلطة وطنية إلى سلطة تحفظ أمن الاحتلال بموجب بعض الاتفاقيات الأمنية، والاقتصادية كاتفاقية باريس، وبذلك جعلت السلطة الفلسطينية نفسها بهذا الاتفاق ملزمة بأن تجعل الاحتلال الإسرائيلي احتلالًا ناعمًا نظيفًا غير مكلف.
رابعًا: تأثير اتفاق أوسلو في الواقع الداخلي الفلسطيني.
زاد الانقسام السياسي في الساحة الفلسطينية مع توقيع اتفاق أوسلو، فلم توافق أغلب فصائل العمل الوطني والإسلامي على هذا الاتفاق، ولكن حركة فتح وبعض الفصائل وافقت على ذلك إلى أن أصبح هذا الاتفاق واقعًا على الأرض، وساهم أوسلو في إحداث اختلال في البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني، فبعد أن كان مجتمعنا في أغلبه ينتمي إلى الطبقة الوسطى بعد أوسلو أصبح ينتمي إلى طبقتين فقيرة وغنية، وساهم هذا الاتفاق في إيجاد سلطة تحت الاحتلال أوجدت جماعات مصالح للحفاظ على بقائها، والصراع عليها إلى أن حدث الانقسام السياسي والجغرافي بين فتح وحماس وغزة والضفة الغربية، واستغل الاحتلال ذلك لينفرد بالجميع، وتبدأ مرحلة تصفوية جديدة للقضية الفلسطينية عرفت بصفقة القرن في زمن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وقد تحدثنا في مقال سابق عن أبرز ملامحها، ويدور الحديث هذه الأيام عن صفقات تطبيع هنا وهناك لم تتضح بعد ملامحها وتداعياتها.
الخلاصة: بات من الواضح أن اتفاق أوسلو عزز من أمن وشرعية كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأضعف الحالة الفلسطينية، وساهم في تشويه صورتها أمام العالم أجمع، وبذلك فإن اتفاق أوسلو الذي أقر المجلس المركزي لمنظمة التحرير أخيرًا توصيةً بوقف العمل به هو مشروع تصفوي بما تعنيه الكلمة، ومن هنا فإن أولى خطوات إنهاء الانقسام هي العمل على إنهاء العمل بأوسلو، أو _على أقل تقدير_ دراسة تقويمية جديدة لهذا المسار، والانقلاب على كل سلبياته، والمُراكمة على أي إيجابيات صنعت وأصبحت واقعًا في هذا الاتفاق، فنكبتنا الأولى هي بقيادة كيان الاحتلال عام 1948م، ونكستنا الثانية في هزيمة 1967م، ونكبتنا الثالثة باتفاق أوسلو عام 1993م، والمصالحة السليمة هي التي تبدأ بالمعالجة من الجذور.