تحضر هذه الأيّام الذكرى الثلاثون لتوقيع اتفاقية أوسلو، وفي نهاية الشهر الجاري أيلول/ سبتمبر تحضر الذكرى الثالثة والعشرون لانتفاضة المسجد الأقصى، وهي الحدث الأكبر الشاهد على وعي الفلسطينيين بفشل تلك الاتفاقية من الناحية الفلسطينية، فالانتفاضة في جوهرها وشكلها نقيض للاتفاقية، في صورتها (أي الانتفاضة) الجماهيرية التي انطلقت تحاول استعادة الانتفاضة الأولى، وفي صورتها العسكرية الأكثر ملحمية في تاريخ الكفاح الفلسطيني، ولا يقلّ عن ذلك أهمّية أنّ وصول مشروع التسوية إلى نهايته الحتمية بالفشل بالنسبة للفلسطينيين، في مفاوضات كامب ديفيد؛ بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس حكومة العدوّ الأسبق باراك، برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون؛ كان العامل الكامن الدافع نحو تفجير الانتفاضة، والذي لم ينتظر أكثر من اقتحام شارون للمسجد الأقصى، وهو الاقتحام الذي أخذ بدوره يؤسّس لتغيير الموقف في المسجد الأقصى.
تلك الأحداث، أوسلو وانتفاضة الأقصى، هي أهمّ ما يصوغ اللحظات الفلسطينية الجارية داخل الأرض المحتلّة.
من المهم العودة بالتأكيد على كون اتفاقية أوسلو كانت فشلاً فلسطينيّاً، ولم تكن فشلاً إسرائيليّاً، وهو ما يذكّر بمقالتي السابقة "كيف تنتصر "إسرائيل".. وكيف تُهزم؟!"، فقد حقّقت (إسرائيل) انتصاراتها بالحرب، ثمّ بالتسويات القائمة على أساس الاعتراف بانتصارها الأبديّ، وبقائها الدائم، واستحالة هزيمتها، فحوّلت الفرصة العربية في تشرين/ أكتوبر 1973 إلى انتصار لها بكامب ديفيد المصرية، وحوّلت الفرصة الفلسطينية الكبرى في الانتفاضة الأولى إلى انتصار لها في اتفاقية أوسلو. وما ذكرته إجمالاً في تلك المقالة، ذكره تفصيلاً الكاتب الإسرائيلي سيفر بلوتيسكر في صحيفة يديعوت أحرنوت، في الثالث من هذا الشهر (أيلول/ سبتمبر).
يقول بلوتيسكر: إنّ عدد الدول التي تعترف بـ"إسرائيل" ارتفعت من 110 قبل توقيع اتفاقية أوسلو إلى 166 دولة اليوم، لترتفع النسبة من 60 في المئة إلى 88 في المئة من بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهو ما يعني بالأرقام المجرّدة، أنّ "إسرائيل" احتفظت باحتلالها للضفّة الغربية والقدس، وبنحو أكثر بشاعة وسوءاً ممّا كان عليه، وكسبت في الوقت نفسه، بفضل الإيهام بالتسوية والتفاهم مع الفلسطينيين، تمدّداً أكبر وأوسع في العالم. ولا ينبغي أن ينسى أحد أنّ موجة التطبيع العربي الأولى مع (إسرائيل) جاءت عقب توقيع تلك الاتفاقية وتأسيس السلطة الفلسطينية، بينما بدأت بعض الدول التي كانت تعدّ داعمة للفلسطينيين بتطوير علاقاتها الدبلوماسية مع (إسرائيل) ، كالصين والهند واليونان، قبيل أوسلو وعلى وقع مؤتمر التسوية الذي عقد في مدريد. وإن كان ذلك ناجماً عن تحوّلات أكبر في العالم، كسقوط الاتحاد السوفييتي وهيمنة القطب الأمريكي على العالم، فإنّ مسار التخلّي العربي عن القضية الفلسطينية، والدفع بمنظمة التحرير نحو تسوية مجحفة، كان من الأسباب الإضافية بالضرورة.
اقرأ أيضًا: مزاعم اليمين الإسرائيلي ضد اتفاق أوسلو في ذكراه الثلاثين
اقرأ أيضًا: انقسام إسرائيلي بشأن اتفاق أوسلو في ذكراه الثلاثين
وإذا كان التطبيع العربي المندفع عقب أوسلو قد أخذ اندفاعته من الحماسة الرائجة وقتها لمشروع التسوية وحلّ القضيّة الفلسطينية على أساسه، متذرّعاً بدعم الفلسطينيين واستفادتهم منه، فإنّ التطبيع الجاري الآن صريح في كونه بديلاً عن حلّ القضية الفلسطينية، وهو مشروع "السلام" البديل لنتنياهو وعموم اليمين الصهيوني بتجلّياته المتعددة العلمانية والدينية، ولم تكن البوابة التي فُتحت أمام تصفية الحقّ الفلسطيني بالتطبيع مع العرب وترك الحقوق الفلسطينية خلف ظهور الجميع، لتُفتح إلا باتفاقية أوسلو الفلسطينية، في مفارقة تاريخية موجعة، وهو ما يجعل اليمين الإسرائيلي أكبر الكاسبين من هذه الاتفاقية بالرغم من معارضته لها، وقتله رئيس وزراء العدوّ الأسبق رابين الذي أنجزها لصالح (إسرائيل) ، في مفارقة أخرى!
ولم يكن الأمر يحتاج أرقاماً إسرائيلية ذَكَرَ بلوتيسكر بعضها، بالإضافة إلى ما سبق، منها ارتفاع أعداد المستوطنين في الضفّة الغربية من 115 ألف مستوطن إلى 485 ألفاً، لتشكّل كتلة المستوطنين في الضفّة الغربية 5 المئة في من عموم مجتمع المستوطنين في فلسطين، بعدما كانت قبل توقيع اتفاقية أوسلو 2 في المئة فقط.
وقد انعكست نتائج الاتفاقية لصالح (إسرائيل) اقتصاديّاً، بعدما أخرجت قوّاتها من داخل تجمّعات الفلسطينيين، وتحلّلت تماماً من أيّ التزامات مدنية واقتصادية تجاه الفلسطينيين، بتحويل عبء هذه الالتزامات إلى السلطة الفلسطينية الناشئة، في مفارقة جديدة، كونها، أي (إسرائيل) احتفظت باحتلالها للضفة، ليس فقط ببقائها داخل المستوطنات والمعسكرات وتحكّمها بالحدود، ولكن أيضاً بتعظيم أدوات الضبط والسيطرة، بالحواجز والأبراج والبوابات الحديدية والمكعبات الأسمنتية والطرق الالتفافية وجدار الفصل والأسلاك الشائكة وتوسيع المستوطنات وقطع الفلسطينيين عن مناطق (C) تماماً والتي تشكّل أكثر من 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، ثمّ احتفاظ قوّاتها بالقدرة على اقتحام أيّ منطقة فلسطينية لتنفيذ عمليات الاغتيال والاعتقال داخلها، لتصير الضفّة الغربية شيئاً آخر غير ما عرفه الفلسطينيون قبل توقيع أوسلو!
إنّ تكثيف المشاريع العقارية وتحسين فرص شركات الإنشاء وتطوير البنى التحتية بزيادة الوقائع الاستيطانية في الضفّة الغربية والقدس، وبالاستفادة من الدعم الأمريكي السخي، إلى جانب تعزيز العلاقات التجارية الإسرائيلية الخارجية بفضل الانفتاح الدبلوماسي الذي تمتعت به (إسرائيل) بعد أوسلو، والذي ساهم في تطوير قطاع الـ"High-tech"، وتصدير الخبرات الأمنية الإسرائيلية للعالم، ثمّ توفير كلفة المسؤولية المدنية عن الرعايا الخاضعين للاحتلال، إنّ ذلك كلّه خفّض النفقات الدفاعية الإسرائيلية من 11 في المئة من الناتج المحلّي إلى 5 في المئة، ليوفّر ما مقداره 100 مليار شيكل هذا العام، ليرتفع مستوى معيشة الأسرة الإسرائيلية بنسبة 130 في المئة، في مقابل تحطيم المقوّمات الاقتصادية العصامية للمجتمع الفلسطيني، وربطها بنحو قاتل بالاقتصاد الإسرائيلي!
الأهمّ فيما يقوله بلوتيسكر، إنّ (إسرائيل) قبل أوسلو وجدت نفسها أمام خيارين، إمّا الانسحاب الكامل والفوضوي من الضفة بلا اتفاق، أو البقاء فيها مع تأسيس دولة ثنائية القومية تقوم على الفصل العنصري المتوحش الكافي لعزلها عالميّاً. ما لم يقله بلوتيسكر أنّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى هي التي وضعت (إسرائيل) أمام هذين الخيارين، لكنّها أنقذت نفسها باتفاقية أوسلو، فاحتفظت باحتلال الضفّة بالنحو المذكور في هذه المقالة، وهي اليوم تمارس أكثر أنماط الفصل العنصري بشاعة بالتغطّي بنتائج أوسلو ودون أدنى اعتراف بأيّ حقّ سياسيّ للفلسطينيين!
مرّة أخرى، لا يحتاج الأمر أرقاماً إسرائيلية للطم وجه اليمين العربي بها، فبداهة الأشياء أن التفاهمات التعاقدية القائمة على الاعتراف النهائي بانتصار العدوّ، لن تفضي إلى شيء أحسن، وطالما أنّ هذا العدو ينتهج استراتيجية "السلام" المتفوّق المؤسّس على انتصاره العسكري، فلا سبيل لإبطال استراتيجيته هذه إلا بالصمود على طريق هزيمته، ورفض "السلام" معه الذي لا يعني سوى ما ذكر من نتائج!
ثمّ فلنتخيل! هناك من العرب من يقول إنّ الفلسطينيين لم يفعلوا ما يكفي للسلام مع "إسرائيل"!