في ساحة الشوا بمدينة غزة، انطلق الناس في الشوارع، بعد صدور أوامر تشريد من قوات الاحتلال الإسرائيلي، هائمين، يسيطر التوتر والخوف والقلق على الوجوه، صوت بكاء الأطفال يغطي على تمتمات الصبايا لوالدتهم "يما وين بدنا نشرد؟!".
لا تعرف وسام اسليم (51 عاما) ماذا تجيب! فهي تسير بلا وجهة، بعد أن أجبرت على ترك مخزن كان يؤويها مع أبنائها الثلاثة، وزوجاتهم، وأطفالهم، بعد تدمير بيتها خلال حرب الابادة، وتعيش معهم رحلة النزوح للمرة التاسعة.
تقول وسام لـ "فلسطين أون لاين": "لم نعد نحتمل فكرة النزوح، فالأمر مرهق نفسيا للغاية، عدم الاستقرار، والخوف من مصيرنا المجهول، وعودتنا للمبيت في الشارع في هذا الطقس البارد، فليس هناك مكان آمن نأوي إليه".
وتتابع: "الأطفال والكبار يرتعدون من الخوف، وأطفالنا ليلا يعانون من التبول اللااردادي، والكوابيس، والبكاء الهستيري مجرد سماع صوت الطائرات التي تحلق على نحو منخفض".
أرقام صادمة
في السياق، كشفت دراسة أعدها مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات الفلسطيني، بدعم من منظمة "تحالف أطفال الحرب"، عن أرقام صادمة تتعلق بالصحة النفسية للأطفال في قطاع غزة.
وأشارت الدراسة إلى أن 96% من الأطفال يشعرون بأن الموت قريب، و87% يعانون من خوف شديد، بينما يعاني 79% من الكوابيس بشكل متكرر.
استندت الدراسة إلى مقابلات مع 504 أسر، شملت أطفالًا ذوي إعاقات أو مصابين أو منفصلين عن عائلاتهم، سلطت الضوء على الآثار النفسية المدمرة لأكثر من عام من القصف والنزوح المتكرر، حيث بات الأطفال والعائلات على حافة الانهيار.
أظهرت النتائج أن 92% من الأطفال يرفضون تقبل الواقع المرير، و77% يتجنبون الحديث عن الصدمات التي عاشوها، في حين أبدى 73% سلوكيات عدوانية. كما صرّح 49% من الأطفال الذين شملتهم الدراسة بأنهم يتمنون الموت، هربًا من وطأة الحرب.
فيما يتعلق بالنزوح، كشفت الدراسة أن 88% من العائلات تعرضت للنزوح عدة مرات، بينما اضطرت 21% منها إلى التنقل 6 مرات أو أكثر بحثًا عن الأمان.
تعتمد معظم الأسر في غزة على دخل يومي لا يتجاوز 4.19 دولارات، في وقت يعاني 80% من المعيلين من البطالة. اللافت أن 24% من الأسر يديرها أطفال لا تتجاوز أعمارهم 16 عامًا، مما يضاعف الضغوط النفسية عليهم.
عصبية تلقائية
والنزوح بالنسبة لضحى عبد العال هو المر بعينه، فهي لم تنعم بعد بحياة الاستقرار التي عاشتها خلال المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار لأيام قليلة قبل أن يخرقها الاحتلال ويجدد حربه على القطاع.
وتقول ضحى لـ "فلسطين أون لاين": "حياة النزوح مرهقة نفسية للغاية حيث تضطرين إلى العيش مع عدد كبير من الناس في مكان ضيق، لا خصوصية، ولا راحة جسدية، ولا نفسية، ناهيك عن المشاكل التي لا تنتهي مع اختلاف الطباع".
وتتابع: "بعد نزوحي المتكرر صرت أفضل الوحدة، وعدم الاحتكاك بالناس، فقد خسرت الكثير من الأصدقاء، والأهل بسبب المشاكل بيننا خلال فترة النزوح، وأصبحت عصبية للغاية، أبكي على أتفه الأسباب، لم أعد أحتمل الحياة المشتركة".
تختم ضحى حديثها: "عند حدوث قصف، أو مجرد سماع صوت الطائرات العالية، أخرج ركضا من الخيمة وأنا أرتعش من الخوف أصرخ وأنادي على أطفالي حيث أخشي أن أفقدهم في لحظة".
ودون أن يتوقف مسلسل النزوح القسري، يتجاوز ما يعيشه أهل غزة فقدان المأوى، ليصل إلى جراح نفسية عميقة تهدد استقرارهم النفسي وتسرق براءة الطفولة وسكينة الكبار.

