فلسطين أون لاين

برهانُ الفطرة (2-2)

سامح طارق

تخبرنا عالمة نفس النمو "ديبوراه كيليمين"، من خلال تجاربها، أن الأطفال يمتلكون نوعا من الشغف المُسمّى شغف الغائية غير المميزة، وتعني بهذا أن الأطفال يجدون الغاية من وجود الأشياء بأقل قدر ممكن من الدليل، في الوقت الذي يجادل فيه الكبار بصورة أكثر عِنادا. ففي إحدى تجاربها، وُضِع الأطفال أمام خلاف بين شخصين مُتخَيّلين، رأى أحدهما أن النمور والجبال والبحار موجودة لهدف محدد، تماما كما يُصنع الجينز لهدف معروف، في حين جادل الثاني بأن وجودهم لا غاية منه.

بسؤال الأطفال تبيّن أن ثلاثة أرباعهم قد أيّدوا الشخص الأول، على الرغم من أن آباءهم -الأميركيين- لم يهتموا بتعليمهم غايات الموجودات الطبيعية كما اهتموا بتلقينهم غايات الأشياء المصنوعة، بل إن الأطفال -عينة الدراسة- قد أظهروا ميلا كبيرا لتفسير الأشياء تفسيرا وظيفيا (الصخرة مدببة لكي لا تجلس عليها الحيوانات وتحطمها) على حساب التفسيرات الفيزيائية (هي مدببة لأن أجزاء من المواد تكدّست فوق بعضها لفترة من الزمن)، وهو ما يعني أن إيمانهم بغائية الأشياء فطري ومستقل عن تلقين البالغين.

لكن ما هي الفطرة؟ يعرّف "سامي عامري"، في كتابه براهين وجود الله، الفطرة أنها "ما ينعدم أو يعتل مفهوم الإنسان بانعدامه". ويرى "مرتضى فرج" -في كتابه "أفي الله شك؟"- أن البحث حول فطرية الإيمان يتبعه البحث في ظواهر ثلاث: البحث عن الله في الجنس البشري في كل زمان ومكان، ووجودية الإدراك الدائم بحضور الله في النفس، إضافة إلى توجه النفس -مدفوعة- نحو الخالق بإحساس الحاجة والافتقار.

وفقًا لهذه الثلاثية، يقول اللاهوتي "أوغيسط ساباتييه": "لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتيّ بهذا السؤال مرة إلا وأراني مسوقًا للإجابة عنه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين لأني لا أستطيع خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي. يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرًا بهذا الاعتراض نفسه، ولكنّي وجدته يعقّد المسألة ولا يحلها". 

هنا، يمكننا استدعاء الحديث النبوي الذي يرويه "البخاري": "ما من مولود إلا يُولد على الفطرة وأهله إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وفي هذا يورد "ابن حجر العسقلاني"، في شرحه للبخاري، قول "الطّيبي" الذي يفسّر الفطرة هنا بـ "تمكّن الناس من الهدى في أصل الجبلّة والتهيؤ لقبول الدين، فلو تُرِك المرء عليها لاستمرّ على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن حس هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يُعدَل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد". فالإيمان بالله "ليس مجرد معلومة أو فكرة، وإنما حاجة واتجاه".

كما يرى الدكتور "عبد الله العجيري"، في كتابه "شموع النهار"، أن المرء لا يستطيع أن يكون ملحدًا بالكلية لأن هذا سيقتضي -بالتبعية- إنكار كل الأمور المتجاوزة -كالأخلاق- وإنكار البدهيات الفطرية -كعدم اجتماع النقيضين-؛ لأن الإلحاد يقوم بالأصل على نقد المفهومين: الميتافيزيقيا المتجاوزة، والاستدلالات البدهية على وجود الله. 

كما يرى "الشهري"، أن الكثيرين لا يدركون أن افتراض الملحد لمفاهيم كالخبرة الذاتية والفطرة هو افتراض مبني على فهم مغلوط للعقل نفسه؛ إذ يزعم أن خبراتنا الذاتية تنتمي إلى شيء خارجه، ف حين التصور الصحيح لهذا يقضي بأن مطالب العاطفة واتجاهات الوجدان مُضمّنة في عمل العقل وعملية اتخاذ القرار، ومعنى هذا أن الملحد عندما يتخذ قرار إلحاده فإنه يكون قد استجاب لتفكير يقوده مطلب عاطفي ما، وليس لمنطق خالص أو فكر محض.

وهو ما أكّده عالم الأعصاب "أنطونيو داماسيو" حين قال إنه لا وجود لشيء اسمه فكر من غير أساس عاطفي. وأكبر دليل على ذلك -وفقا "للشهري"- هو عودة كثير من الملاحدة إلى الإيمان، متقاربًا في ذلك مع "جستون باريت" في كتابه "فطرية الإيمان"، بنقده لمن يرون الإيمان في الصغر امتدادًا للخرافات التي يصدقها الأطفال، كوجود الوحوش أو بابا نويل… إلخ، إذ يقول "باريت" إنه لو كان ذلك صحيحًا، فلماذا تختفي الخرافات كلها من أذهاننا بتقدم العمر ولا يختفي الإيمان؟ 

"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ".