ها قد انقضت الأعوام الثمانية عشر، ومحمود عباس رئيسًا للسلطة صك عار مقاطعة أوسلو، ورئيسًا لدولة هُلامية على الورق، ورئيسًا لحركة "فتح" التي أضحت ممزقة مُتناثرة متناحرة.
لقد نجح هذا العجوز الخَرِف وهو يختم عقده التاسع من قبر الديمقراطية، وتعطيل الحياة الانتخابية بحيل شيطانية، ووقف كل المحاولات لإصلاح النظام السياسي، بل شلّ منظمة التحرير الفلسطينية، وحولها إلى ملجأ لمستحاثات تبدو آدمية، وفي جلها لا تمثل أحدًا، وقد اعترفت جهارًا نهارًا بِعَدُوِّها الذي تأسست لقتالِه، فَمَنَحتْهُ مُعظم التراب الذي كانت تسعى إلى تحريره، وأصبح دورها أمنيًّا لحمايته.
بل تمكن عباس -ولو إلى حين- من خداع عدد واسع من العوام بظواهر صوتية ودافئة مع من سمّاهم الجيران، وقتل واعتقل الرجال الرجال، لينتشر الاستيطان كالسرطان، وكاد يمزق النسيج الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد داخل البلاد وخارجها.
وعباس لم يكُن صادقًا، ونقض كل عهوده، فقد تآمر على نتائج الانتخابات الديمقراطية البرلمانية التي أُجريت في 25 كانون الثاني عام 2006، وهو الذي سرعان ما دعا إلى إجراء استفتاء على النتائج الشفافة، والحبر الذي لم يجف بعد على أوراق التصويت التي راقبت عمليتها من ألفها إلى يائها مئات الهيئات والمؤسسات الحقوقية المحلية والعربية والدولية، بما في ذلك مؤسسة جيمي كارتر (الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية) التي شاركت شخصيًا في الرقابة والتجوّل على مراكز التصويت، وأدلت بشهادتها وقالت: إنها الأكثر مصداقية وشفافية من كل عمليات التصويت التي تابعتها في الشرق الأوسط .
وعندما لم يتمكن عباس من إنفاذ محاولة إجراء الاستفتاء على نتائج الانتخابات التي كانت صادمة له، قام بعد حين بِحل الحكومة الفلسطينية برئاسة القائد إسماعيل هنية، وهي التي نالت وبأغلبية ساحقة ثقة المجلس التشريعي، الذي منح فيه الشعب ثقته بنسبة 60% لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" ، وقد أعطاها شرعية إدارة الشأن العام، وقيادة الحركة الوطنية في مواجهة عدو محتل، كولونيالي وفاشي، لاقتلاعه ودحره، وتطهير البلاد من نهرها إلى بحرها.
كما أكدت كل الأحداث التي كشفت جوهر التحالف "العباسي" الصهيوني، الأمريكي، في خطة "استدراج" حركة المقاومة الإسلامية "حماس" للذهاب إلى "كمين" الانتخابات، اعتقادًا من التحالف المذكور أن "حماس" لن تُحقق أكثر من 5% - 10% من الأصوات، وكان ذلك لأكثر "الحالمين" تفاؤلًا.
وكان محمود عباس أكثر الذين فاجأهم هذا التسونامي الانتخابي، ليبدأ مسلسل الالتفاف على إرادة الشعب بإسقاط الحكومة لأسباب فصائلية سياسية غير قانونية.
وبلغ عباس ذروة غطرسته وتفرُّدِهِ حين حل المجلس التشريعي صاحب الولاية الممتدة، وهو الهيئة الوحيدة التي تستمر في أداء مهامها حتى يُنتخب مجلس تشريعي جديد، ويحلف أعضاؤه القسم القانوني، وبعد ذلك فقط يمكن عدُّ المجلس القديم منتهي الولاية القانونية، وهذا ما يؤكده القانون الأساسي الفلسطيني في عدد من مواده، وهو الدستور الفلسطيني المؤقت، كما أن هذا تؤكده نصوص الدساتير الوطنية في كل الدول الديمقراطية.
وَتَصَرَّفَ عباس كأنه يدير مقاطعة ورثها عن الوالد، ليبدأ في تشكيل ما سمّاه زورًا حكومات، وهي من لون سياسي واحد، بل ومن أتباع يأتمرون بما يريد، ومن فاسدين غارقين في قضايا سوء الائتمان، وملفاتهم تشي بعلاقات مشبوهة بتخابر يندى لها الجبين، فالقضاء فقد استقلاله، عصابة تتآمر وتتسارع وتجمع الأنصار والسلاح لخلافته المحتملة والقريبة، وقد بلغ من العمر عتيًا، شكِّلت المحكمة الدستورية التي دَمرت كل مواد الدستور المؤقت، وتشير الأرقام إلى أن عباس أصدر حوالي 350 مشروع قرار بقانون، ليصبح فرعون زمانه والحاكم بأمره، على الرغم من انتهاء ولايته الدستورية في 9 كانون الثاني 2009، في الوقت الذي ارتكب في 18 عامًا ليس فقط مخالفات قانونية واضحة، بل انتهاكات وطنية، وسمسرة، وبيع الثوابت الوطنية.
ولم يزل عباس يتآمر على مقاومة الشعب الباسلة وعلى الكفاح المسلح الذي يتصاعد اليوم في ضفة القسام، الذي يعدُّه إرهابيًا وعبثيًا وفوضى، ويقتل فرسانه أو يعتقلهم ويسلِّم الكثير من أبطاله للعدو النازي الذي يغتالهم، وكثيرون زجَّهم في باستيلات الاحتلال وبأحكام للعديد من المؤبدات.
إن ما يديم حُكم عباس الاستبدادي هو دعم الاحتلال بالسلاح والمال الذي لم ينقطع يومًا عن الأجهزة الأمنية التي بناها الاحتلال، ودربها الجنرال الأمريكي دايتون، فكان نتاجه "الفلسطيني الجديد"، الذي يطارد كل ما هو وطني ومقاوم، والذي يبدأ في تكميم الأفواه وحرية الرأي، حتى أصبح الاعتقال السياسي ظاهرةً أساسية وعنواناً لقمع الحريات تصل إلى حد الاغتيال، كما وقع مع الناشط السياسي الوطني الشهيد نزار بنات، وإطلاق النار وتهديد العديد من قادة الرأي والنشطاء، وطلاب الجامعات، والمحررين، وانتهاك حرمات البيوت وترويع الأطفال والعائلات، دون أن يرف جفن لهؤلاء المتخابرين.
ومنذ يومين فقط صرح رئيس المعارضة الصهيوني ورئيس وزراء كيان المستوطنين السابق في فلسطين المحتلة يائير لابيد، في هجوم لاذع على حكومة اليمين الديني والمتطرف الفاشي: "انتبهوا، وحافظوا على سلطة عباس، فهي شريكنا الأمني".
ورد عليه رئيس وزراء الحكومة بنيامين نتنياهو بأن هناك مَسارِب عديدة لإسناد السلطة "الفلسطينية"، وتطوير التعاون الأمني، بل وتعزيز إلى المدى المطلوب.
إن من وَقَّعَ صك إذعان أوسلو في حديقة الزهور في "البيت الأبيض" الأمريكي في واشنطن ليس غافلًا عن ارتداداته والتزاماته، والدور المناط بتلك السلطة المتآمرة، وحجر الرحى فيها هو التقاسم الأمني الوظيفي، الذي بدأ منذ عام 1988 في المؤتمر الصحفي الذي عقده عرفات، واعترف مبدئيًا بكيان العدو، ونَبذَ فيه "الإرهاب"، الذي كان يقصد فيه أي عمل عسكري أو عنف ضد الكيان الذي اعترف به.
ولا بد من التذكير هنا ببواكير السقطات الوطنية الكارثية، ففي التاسع من أيلول عام 1993، بعث عرفات برسالة التطمينات الشهيرة، وهي من "مداميك بناء الثقة"، يقول فيها بالحرف الواحد: "إن منظمة التحرير الفلسطينية تعترف بحق (إسرائيل) في العيش بسلام وأمن، وتَقْبل قراري الأمم المتحدة 242 و 338، وتدين استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى، وسوف تأخذ على عاتقها إلزام عناصر المنظمة كافة بذلك، كما تؤكد أن بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تُنكر حق (إسرائيل) في الوجود، والبنود التي تتناقض مع الالتزامات الواردة في الخطاب نفسه أصبحت غير ذات موضوع، ولم تعد سارية المفعول، وتتعهد المنظمة بأن تقدم إلى المجلس الوطني الفلسطيني موافقة رسمية على ذلك لإقرارها".
هكذا ونصاً تسقط مقدسات الشعب الفلسطيني مرة واحدة، وبجرة قلم، ويجتمع عدد من الذين لا يمثلون حتى أنفسهم مع الكثير من رجال الأمن والمرافقين والسائقين تحت مُسمى "المجلس الوطني"، فتُشطب 12 مادة من الميثاق الوطني، وتُعدل لــ 16 مادة وهو يعادل الإلغاء، أي 28 مادة، من ميثاق مُكون من 32 مادة، والمواد الأربع المتبقية هي إجرائية إدارية لا تحمل مضموناً سياسياً.
وهكذا شُطِبت المرجعية الكفاحية السياسية، وهذا هو الإرث الذي يحمله اليوم عباس، ليفرضه على شعب صابر صامد مرابط بقيادة مقاومة تعلم يقيناً كيف سترد على العدو وسوائب مُتخابرية، وتسقط مشروعهم الخطير.