فلسطين أون لاين

تقرير الشهيدان "عابد" و"حوشية".. بحبر الدم رسما معالم الوحدة

...
الشهيدان "عابد" و"حوشية"
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعد عام لم تصمت فيه مساجد جنين عن نعي الشهداء، ولم تتوقف الأمهات عن إطلاق الزغاريد الممزوجة بدموع فراق فلذات أكبادهن، استيقظ أهالي بلدة "كفر دان" غرب المدينة على وقع أصوات اشتباكات مسلحة وهدير آليات وجرافات عسكرية اقتحمت البلدة لهدم منزلي عائلتي الشهيدين أحمد وعبد الرحمن عابد.

خلال تصدي مقاومين لعملية الاقتحام، استشهد الشابان فؤاد عابد (18 عامًا) برصاصات أصابت منطقة البطن والفخذ، ومحمد حوشية (21 عامًا) بعيار ناري من قناص اخترق قلبه، بعدما هبَّ لصد العدوان على جنين في ساعة متأخرة من مساء أمس.

"سلامٌ على من حارب في الليل وعاد في الصباح شهيدًا".. جملة تزين بها ملف حساب فؤاد عابد الشخصي في تطبيق "انستغرام" عكست وصفًا لشخصيته ونهاية لطريق كان يتوقع الوصول إليه.

اقرأ أيضاً: بالفيديو الجماهير الفلسطينية تُشيّع جثماني الشهيدين "حوشية" و"عابد" بجنين

مقطع فيديو من باحات المسجد الأقصى تعلو فيه رايات حماس الخضراء، يتردد فيه كلمات: "هذه كتائب عز الدين سمت فينا، تجتث الغاصب من ترب فلسطينا"، فكانت آخر قصة شاركها عابد على حسابه.

في المشفى تطلب والدة الشهيد عابد من المشيعين إعطاءها مساحة إضافية من الوقت لإطالة نظرة الوداع، ولحظات العناق، تهمس في أذنيه وتتمتم بكلمات تصبر بها نفسها لتبدو كأنها أكثر صلابةً من هشاشة دمعات عيونها لم تتمكن من حبسها أمام قسوة الغياب، وهو المشهد الذي عاشته والدة "حوشية".

جنين التي عرفت بوحدة أطياف اللون الفلسطيني، جسدتها مرة أخرى خلال تشييع الشهيدين "عابد" الذي تلفه راية حماس الخضراء، و"حوشية" براية كتائب شهداء الأقصى، في مشهدٍ جدد فيه الشهيدان بدمائهما الدعوة إلى رص الصفوف أمام محتلٍ لا يفرق بين الفلسطينيين.

حصار وقوات كبيرة 

يروي محمد عابد وهو عم الشهيد لصحيفة "فلسطين" تفاصيل صباح دام عاشته "كفر دان" قائلًا: "استيقظنا على صوت الآليات وقوات كبيرة من جيش الاحتلال اقتحمت البلدة، وحاصرت الناس، كنت مع الذين احتجزوهم في المسجد، فيما احتجزوا مجموعة من العائلة في منطقة أخرى".

ينقل عن شهود عيان حول طريقة استشهاد ابن شقيقه، بأن "فؤاد المعروف بحبه وغيرته على البلدة، كان يتخفى بين بعض الزقاق، ولكن عندما أخرج جزءًا من جسده أصابه قناصة الاحتلال بأربع رصاصات في البطن والفخذ، إحداها أحدثت نزيفًا".

يردف وهو يستعيد بقية التفاصيل: "عندما نقلوه إلى المشفى كان يتحدث ولم يكن فاقدًا الوعي، ثم تدهورت حالته وتبين أن إصابة الفخذ أحدثت نزيفًا بالشريان الرئيس".

لم يكن "فؤاد شابًا عاديًا" فكان غيورًا لدرجة أنه حريص على حجاب شقيقاته بعمر سبع سنوات، يرثي فقده بصوت يسكنه الحزن: "كان خلوقًا بشكل يفوق التصور، أينما تجد قوات الاحتلال تجده يقاومهم ويتصدى لهم".

يقر عمه أن العائلة حاولت ثنيه عبر نقاشات عديدة عن مواصلة الطريق كونه الابن البكر للعائلة، ولديه شقيق آخر بعمر خمس سنوات إضافة لثلاث شقيقات، لكن "حبه للشهادة والمقاومة كان أكبر من الموافقة على ترك الطريق".

والعام الماضي ودعت عائلة "عابد" ثلاثة شهداء، هم: شوكت في إبريل/ نيسان وعبد الرحمن وأحمد عابد استشهدا في اشتباك مسلح في 14 سبتمبر/ أيلول واعترف الاحتلال حينها بمقتل ضابط، وها هي تنزف للمرة الرابعة مودعة شهيدها فؤاد.

شمعة الميلاد الأخيرة

أطفأ محمد حوشية شمعة ميلاده الـ21 في 23 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، في ختام عام كانت والدته تبحث له عن عروسٍ لتدخل بكرها "عش الزوجية" يرسمُ الفرح طريقه إلى المنزل، لكن الحزن كان أسرع في الوصول إلى منزل العائلة.

مساء الأحد، جمع الشاب أصدقاءه في منزله وتناولوا طعام "العشاء الأخير" في لمةٍ حضرها ابن عمته إياد، لم تفارق البسمة وجهه حتى انفض الأصدقاء.

أطلَّ الصبح حزينًا على جنين وقلب إياد الذي لا يزال لا يستوعب ما حصل وهو يروي لصحيفة "فلسطين" تفاصيل لقائهم الأخير: "اجتمع معظم شباب الحارة في بيته بعد انتهاء اليوم الأخير من عزاء إحدى نساء الحي، ودعاهم لمائدة عشاء".

"لو رأيت جنازته وعدد المشيعين ستعرف كم هو محبوب" إضافة لذلك، عرف عن الشهيد، أنه شاب "محبوب من كل البلدة، وطني شريف، يصر على الشهادة، لدرجة أنه كان يطلب من أبناء حوشيه عدم التجمع في منطقة واحدة في الخطوط الأولى للمواجهة، قائلًا: "بكفي واحد يستشهد منا، بس أنا لحالي".

اقرأ أيضاً: "حماس" تنعى شهيدَي جنين وتُؤكّد عزم شعبنا على مواصلة المقاومة

ينقل إياد عن شاب كان برفقة محمد حتى آخر شهقة صعدت من روحه "عندما أصابت رصاصة صدره، أشعر صديقه بإصابته، ولم يسقط أرضًا مباشرةً، ونطق الشهادتين".

لدى محمد أربع أشقاء (بنت و3 ذكور) كان يعمل مندوب مبيعات، أينما كان يسمع عن جنود الاحتلال كان يحمل نفسه وسلاحه إن توفر أو حجارة، وهي نفس الشجاعة التي امتاز بها الشهيد فؤاد عابد.

ورغم امتلاك الشهيدين صفات وكأنهما صديقان، لكن لم يجتمعا إلا في ساحة المواجهة الأخيرة، وفي جنازة التشييع نفسها وفي قبرين متجاورين.

بتضحيات ودماء رسم فيها أبناؤها الشهداء معالم المرحلة المقبلة ختمت جنين عامها الماضي، وبالدماء نفسها بدأت عامها الجديد مشهرة السيف أمام اقتحام قوات الاحتلال، ترفض الاستسلام، وتكتب رسالةً بالدم أن "الطريق إلى جنين ليست مفروشة بالورود".