استكمالا لحديثنا في المقال السابق عن الإضاءة في الحضارة الإسلامية نتناول اليوم شكلا آخر من أشكال الإضاءة وهي القناديل أو المصابيح.
كانت خطوة متقدمة على السراج، وهي ببساطة طريقة لإضافة الزجاج الشفاف حول ذبالة السراج ثمّ تعليقه إن شاء حامله بدَلَ إثباته الدائم على قاعدة. وقد كانت القناديل معروفة، ولكنها لم تصبح مبذولة للناس بسبب تكاليفها، فاختصت بها دور العبادة، كما حُملت للكبراء والموسرين في سُراهم ليلاً بالشوارع، ووُضِعت على أبوابهم. ويذكرون أن المأمون هو الذي أمر بالاستكثار من المصابيح في المساجد وكلف كاتبه أحمد بن يوسف بن القاسم اللبان بذلك إلى جميع عمال الدولة فكتب: إن في ذلك أمناً للسابلة، وإضاءة للمتهجدين ونفياً لمضانّ الريب..
وقد سبق الفضل بن يحيى البرمكي المأمون في ذلك خلال ولايته على خراسان، فكان أول من أمر بزيادة القناديل في المساجد في إمارته، في شهر رمضان.
واهتم ابن طولون حين بنى مسجده الضخم في القطائع بإضائته، فعلّق بسقفه السلاسل النحاسية المفرغة والقناديل المحكمة...
وهكذا تطورت وتوسعت صناعة القناديل بعد ذلك، ولعب الترف في مادتها كما لعب الفن في تزيينها، فصار بعضها من الزجاج وأركان بعضها من الفضة وبعض من الذهب، وأخذت زينتها من الزخرف والتكفيت، وجعلت سلاسلها التي تُعلّق بها من مختلف المعادن بما فيها الفضة والذهب... وقامت لها في المدن الكبرى أسواق خاصة، كسوق القناديل بمصر الذي ذكره الرحالة ناصر خسرو.
وذكر هذا الرحالة عن قبة الصخرة في القدس أنه: تنتشر القناديل الفضية في فضاء القبة، ويحمل كل قنديل اسم واهبه لهذا المقام القدسي، وقد رأيت من بين تلك القناديل قنديلاً يحمل اسم سلطان مصر، ولقد حسبت الكمية الفضية الموجودة في هذا المكان فوجدتها ألف رطل من الفضة موزّعة في ثنايا القبة، ويعلو الصخرة قنديل فضي معلّق ينحدر من سلاسل فضية تزيده اشتعالاً وتلقي على القبة مزيداً من الهيبة والجلال.
وذكر الرحالة نفسه أيضاً: أن الحاكم بأمر الله اشترى مسجد عمرو بن العاص من أحفاده وأضاف إليه زيادات جميلة وعجيبة، وأمر أن يُزيّن المسجد بقناديل فضية، وقد رأيت بعضهاـ وهي ذات ستّ عشرة زاوية آية في الروعة والهندسة، ويُكتفى بإضاءة جزء من تلك القناديل في الأيّام العادية، فإذا كانت الأعياد أُضيئت جميع تلك المصابيح (وهي 700)، فيسبح الجامع في بحر من النور.
وقد نهب الصليبيون قناديل قبة الصخرة والمسجد الأقصى وباعوها كِسَر فضة.
وعدّ القزويني بعد تحرير القدس في المسجد الأقصى 1500 قنديل و464 قنديلاً في قبة الصخرة. وكانت سلاسل القناديل تعلق في السقوف، لكل قنديل ثلاث سلاسل إلى خمسين أو أكثر. ويذكر ابن الفقيه أنه أحصى سلاسل مصابيح الجامع بدمشق فكانت ستمائة سلسلة من الذهب.
وقد تطورت صناعة القناديل كثيراً في العصر الإسلامي، فإذا كانوا قد جمعوا بعض الأسرجة إلى بعضها فقد كان إمكان جمع القناديل أوسع بسبب ما يمسكها من المعادن، ولأنها على الأغلب ثابتة معلقة. وبهذا الشكل ظهرت صناعة التنانير، والثريات التي تجمع عشرات المصابيح في مجموعة واحدة.
وعلق في قبة الصخرة تنوّر فيه أكثر من خمسمائة قنديل ثمّ سقط سنة 454هـ/1061م فتطيّر الناس وقالوا: ليكونن في الإسلام حادث عظيم!
واستعملت في المدن الإسلاميّة مع القناديل: المشكاة، وهي السراج يوضع في وعاء زجاجي مزيّن ويعلّق كالمصباح. ويبدو أن صناعتها والاستصباح بها في المساجد شاع كثيراً في العصر المملوكي، فثمة منها أعداد كثيرة في المتاحف. وزجاجها الملون الذي تغلب فيه الزرقة كان يحمل الزخارف والكتابات والصور على الزجاج، وغالباً ما يحمل الآيات القرآنية. وقد يطعّم الزجاج بالمِينا. وقد تصنع المشكاة كلها من الخزف أو من النحاس المكفّت بالذهب والفضة.