"كانت تقف في المطبخ تنجز أعمالها، وصغيرها يشاهد برنامجاً على التلفاز، انتهبت إلى الساعة، فأدركت أن الوقت قد داهمها، وعليها أن تُجري اتصالاً طويلاً مهماً بعد قليل، ويجب أن يكون البيت هادئاً تماماً دون أن يسبب لها أي شيء إزعاجاً، هرعت إلى التلفاز وأغلقته وأصدرت أمراً صارماً للصغير يشبه أوامر العسكر بأن يذهب إلى غرفته ويستعد للنوم.. لم تشرح له موقفها ولم تُعطه مهلة لتنفيذ أوامرها، صرخ معترضاً، ولكن يدها كانت قد امتدت إلى التلفاز تُغلقه وتسحب سلك الكهرباء. صرخ الصغير وبكى بغضب معترضاً، ولكنها صرخت فيه بوتيرة غضب أعلى آمرة إياه أن يصمت.. وبطبيعة الحال تمرد ورفض الطاعة، سحبته من يده إلى الغرفة وأغلقت بابها بالمفتاح، وهي تهدد وتتوعد إن سمعت صوتاً ستفعل وستفعل.. ما هي إلا لحظات حتى صمت الصغير مرغماً، وهي ما زالت تسمع شهيقه الصامت بقوة بين الدموع. اعتقدت أنها بذلك تُحسن تربيته فكان هذا هو نهجها دوماً معه.. كبر الصغير وأصبح مراهقاً منعزلاً، لا يُحسن مشاركة الآخرين والتفاعل معهم، ويخشى من أن يخوض التجارب الحياتية التي لا يعرف تماماً إلى أين ستفضي به".
علينا أن ندرك قبل كل شيء أن الأطفال مثل الكبار تماماً، لهم مشاعرهم الخاصة التي تثور وتخبو، وتتنوع بحسب الظروف والضغوط التي يتعرض لها الطفل، أو الرغبات التي تتوالد داخله، وهناك مبررات تقف وراء ظهور كل نوع منها.
عندما يغضب الطفل مثلاً، أو يبكي صارخاً، يستجيب بعض الآباء لتلك المشاعر بالضرب، أو الصراخ عليه والاستهزاء به، وتسفيه مشاعره وتجاهلها وإهمالها والتقليل من أهميتها، فيقول البعض:" لسه مش طالع من الأرض ونازل يتعصبن.. هو شو شاف من الدنيا؟؟"، ومنهم من يستجيب لغضبه بأن يتنازل ويلبي رغباته ويعطيه ما يريد، مهما كان طلبه؛ لأنهم لا قِبل لأعصابهم باحتمال سماع بكائه وصراخه، أو لا قبل لعواطفهم برؤيته باكياً تتناثر دموعه على وجهه.." أعطوه ما يريد ولتذهب الدنيا إلى الجحيم".
يرى علماء النفس أن الغضب سلوك مكتسب، والقاعدة ذاتها تنطبق على السلوك الهادئ كذلك. فالآباء قدوة لأبنائهم في كل السلوكيات.. يقلد الصغار ما يرونه أمامهم بحذافيره، ولن تستطيع أن تطلب منهم انتهاج سلوك أنت لا تفعله، أو التخلي عن سلوك أن تقوم به عندما يُضيق عليك الخناق..
انتبهوا: أطفالنا مرآة لسلوكنا، فلنفكر قبل أن نتصرف.
العنف والغضب يزيدان في أوقاتنا هذه ويظهران بوضوح بين أفراد الجيل الناشئ. يعزو علماء النفس ذلك إلى العنف الذي تنتشر صوره في كل مكان؛ وسائل التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو، والإنترنت، والأفلام، حتى أفلام الكرتون وأغاني الصغار، يغلب عليها طابع العنف، انظر للمباريات الرياضية التي تصورها أفلام الكرتون وكأنها حرب ضروس ومعارك شديدة العنف، إذن يرى الأطفال الغضب والعنف والصراخ طوال الوقت، وبصورة تترسخ في أذهانهم بأنها الوسيلة الأمثل للتعبير عن المشاعر وحل المشكلات.
يصرخ الأطفال غضباً وقد يشتمون، ويبكون، وقد يضربون يلقون أنفسهم أرضاً ويضربون رؤوسهم بالجدران بحدة... إلخ، فماذا نفعل أمام سلوكياتهم هذه؟ وكيف نتصرف تجاه هذا الغضب العنيف؟
الحل الأمثل هو أن نتفهم مشاعر الصغير، ونخبره بأننا نستوعب بأنه غاضب.. ولكن علينا أن نخبره أيضاً أن حل مشكلته لا يأتي بالغضب والصراخ والبكاء، المشكلات تُحل بالتعبير عن احتياجات الواحد منا، والتعبير عما يتعبنا ويؤذي مشاعرنا، والتوضيح للآخرين ما نريد.
بأسلوب هادئ ومنطقي، اطلبوا منه أن يهدأ أولاً لتتمكنوا من الحديث معه؛ فالطفل لن يستوعب شيئاً مما يقال إن تحدثتم إليه خلال نوبة غضبه وصراخه، اسألوه بعد أن يهدأ عن سبب غضبه، وعلموه أن يخبركم بما يريد بوضوح، وليس بالبكاء والصراخ. ومن الضرورة بمكان أن تُناقش المشكلة معه. استخدام أسلوب القصص التي فيها عبرة وتخدم الهدف الذي نريد إيصاله للطفل، هو من أفضل الأساليب التي تساعد على تعديل سلوك الطفل دون أن يشعر بأنه يتلقى الأوامر بشكل مباشر.
انتبهوا إلى أن تفهمكم لمشاعره لا يعني الاستجابة لكل ما يريد.. لا بد أن تكون هناك قوانين تسري في البيت تضبط كل شيء تقريباً، فما كان مسموحاً فليأخذ حقه منه من دون بكاء وغضب، وإن كان ممنوعاً، فلن يُجدي الصراخ والبكاء، ولن يجعله ذلك يحصل على ما يريد.. إن وصل الطفل إلى إدراك هذه القاعدة فنكون قد قطعنا شوطاً طويلاً معه من الوعي والإدراك.