مولد القاضي خير الدين الغزي
شمس الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن عمرَان الْغَزِّي الأَصْل ثمَّ الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ ولد بغزة فِي لَيْلَة الْعشْر من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة، قَرَأَ الْقُرْآن بالروايات على وَالِده وأجازه. وسافر إلى الديار المصرية واشتغل من ابْتِدَاء أمره ودأب وَحصل وتفقه بِالْقَاهِرَةِ على يد الشَّيْخ قَاسم الْحَنَفِيّ، وأذن لَهُ بالإفتاء والتدريس، وَلَقي الْعلمَاء وَأخذ عَن جمَاعَة الْفِقْه والْحَدِيث، وبرع فِي مَذْهَب الامام الْأَعْظَم أبي حنيفَة (رَضِي الله عَنهُ)، وتميز وَصَارَ من الْأَعْيَان المعتبرين، ولي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالقدس الشريف، وَكَانَت سيرته حَسَنَة وأحكامه مرضية، وَاسْتمرّ نَحْو تِسْعَة أشهر ثمَّ عزل، فتنزه عَن الْقَضَاء وَلم يتَكَلَّم فِيهِ بعد ذَلِك، وَانْقطع فِي منزله لِلْعِبَادَةِ والاشتغال بِالْعلمِ وَقِرَاءَة الْقُرْآن والْحَدِيث، وانتهت إليه رياسة مَذْهَب أبي حنيفَة بالقدس، وتصدر للإفتاء والتدريس. وَحج إلى بَيت الله الْحَرَام، وَعظم أمره عِنْد النَّاس وَصَارَ لَهُ الهيبة وَالْوَقار، ودرس بالمعظمية نِيَابَة، وَنسخ بِخَطِّهِ الْكثير من الْمَصَاحِف الشَّرِيفَة وَالْبُخَارِيّ، وَكتب الحَدِيث وَالْفِقْه وغير ذَلِك. وَكَانَ فِي سرعَة الْكِتَابَة والملازمة لَهَا من الْعَجَائِب، وَعمل طَريقَة فِي الْمُصحف الشريف لم يسْبق إليها فِي مُقَابلَة الأحرف، وَهِي أَنه إِذْا كَانَ أول حرف من أول سطر من الصَّحِيفَة ألْفًا يكون أول حرف من أول السطر الْأَخير مِنْهَا كَذَلِك، وَأول السطر الثَّانِي إذا كان مثلًا واوًا يكون الَّذِي يُقَابله قبل السطر الْأَخير كَذَلِك، وهلم جرا، وأحرف الْمُقَابلَة كتبهَا بالأحمر، وَيكون أول الصفحة أول الْآيَة وَآخر الصفحة آخر الْآيَة، وكل جُزْء فِي كراس كَامِل، فَيكون الْمُصحف ثَلَاثِينَ كراسًا لَا يزِيد وَلَا ينقص، وَهَذِه الطَّرِيقَة من الْعَجَائِب، وَفِي الْحَقِيقَة هِيَ طَريقَة فِي غَايَة الْمَشَقَّة، وَقد سهلها الله لَهُ فعملها فِي أسرع وَقت، وَقد اشْتهر هَذَا الْمُصحف بِهَذِهِ الطَّرِيقَة بِخَطِّهِ فِي غَالب المملكة حَتَّى وصل إلى الْحجاز وَالْعراق وَالروم، وَله ربعَة شريفة بِالْحرم الشريف النَّبَوِيّ، وَكَانَ خيرًا متواضعًا حسن اللَّفْظ والشكل وَعِنْده تودد، رحمه الله.