فلسطين أون لاين

واقعنا بين الأمن والقانون ومراعاة الظروف الاجتماعية والوطنية

يشهد الواقع في قطاع غزة تشابكات وتعقيدات بعضها فوق بعض، ويلجأ الناس والمسؤولون إلى طرق بعضها قانوني وبعضها عرفي، إضافة إلى الاجتهاد خارج إطار العرف والقانون، وجزء منها سري، وآخر علني للتعاطي مع المشكلات ومحاولة التغلب عليها، وإيجاد حلول لها.

وبما أن المقال لا يتضح إلا بالمثال فسأضرب هنا مجموعة من الأمثلة، ومن هذه الأمثلة الحادثة الشهيرة التي قام خلالها أحد أفراد حماة الثغور بضرب فتاة في المنطقة الحدودية بغصن شجرة في نهاية شهر أبريل الماضي، بصفتها موجودة في منطقة حدودية، بغض النظر عن التفاصيل، المهم في الموضوع أن هذا الشاب العامل في هذا الجهاز شبه الشُرطي اجتهد في التعامل مع ما عده مشكلة أو مخالفة، واستخدم أسلوباً غير منصوص عليه في القانون، وغير متعارف عليه في العادات والتقاليد (وهو ضرب شابٍّ أو موظفٍ فتاةً بغصن شجرة). وهذا يُثير أسئلة مهمة: هل هذا خطأ فردي مقصود أو أن هذا الموظف غير مُدرّب على التعامل مع المشكلات بشكل قانوني يراعي حقوق الناس وحرياتهم، ويتّبع الإجراءات المنصوص عليها في التعامل مع المخالفين؟

لقد عوقب الموظف على خطئه في الحادثة السابقة، لكن قبل يومين وقعت حادثة أخرى، فأطلق موظف آخر في الجهاز النارَ على سيارة مُسرعة لم تنصعْ للتعليمات، حسب رواية وزارة الداخلية، ونتيجة إطلاق النار قُتِل أحد ركاب السيارة. وهنا أيضاً يجتهد الموظف، ويقوم بسلوك لا ينص عليه القانون، لأن القانون يحث على إلقاء القبض على الهاربين، وليس قتلهم، وكان بإمكان هذا الموظف أن يُطلق النار على إطارات السيارة ليوقفها، وبالتالي يُلقي القبض على الهاربين من الحاجز. هل هذا خطأ فردي أو أن هذا الموظف غير مدرب أو أنه غير مؤمن بكفاءة المنظومة القانونية، ويعد أن التقيد بنصوصها وإجراءاتها لا يأتي بنتيجة جيدة؟

إن الحادثتين السابقتين ليستا نشازاً، ويمكنني تسجيل مجموعة من الملاحظات استنتجتها من حوارات كثيرة دارت بيني وبين عدد كبير من المعارف والأصدقاء والطلاب الذين يعملون في الأجهزة الأمنية والشرطية:

الملاحظة الأولى: تنتشر قناعة بين الكثيرين من العاملين في هذه الأجهزة أن العديد من النصوص القانونية لا تساعد في الوقوف في وجه الجريمة، وأنه لولا الإجراءات التي تتجاوز القانون لأصبح حال البلد فوضى، وتتعزز هذه القناعة بالذات فيما يتعلق بالجريمة الجنائية والأمنية. والملاحظة الثانية، وهي متفرعة عن الملاحظة الأولى، تتمثل في طريقة التعامل مع المشكلات الاجتماعية، إذ تلجأ جهات إنفاذ القانون إلى لجان الإصلاح، ويوكلون إلى هذه اللجان التعامل مع القضايا ذات الطابع الاجتماعي.

وفي الحالتين تضعف قيمة النصوص القانونية في نظر المكلفين بإنفاذ القانون، ويصبح اللجوء للاجتهاد والتصرف خارج إطار القانون أمراً طبيعياً لا غضاضة فيه، وهذا يجعل المتابع للشأن العام يستخلص أن المشكلة ليست فردية، ولا متعلقة بأخطاء أفراد، وإنما هي مشكلة منظومة قانونية وتدريبية لا تُقنع المنتسبين لأجهزة إنفاذ القانون، بل تُعزز في أوساطهم ثقافة الاجتهاد خارج حدود النص من أجل تحقيق الهدف الذي يعدونه سامياً. وهذا يتطلب عدم التوقف عند الشاب الذي أخطأ الاجتهاد، بل إعادة النظر في منظومة القوانين والتأهيل وإجراء ما تتطلبه الحالة الاجتماعية والجنائية والأمنية من تعديلات، حتى تُصبح منظومة القوانين والإجراءات فاعلة ومُقنعة، وبالتالي تنتهي الاجتهادات خارج النص، وتنضبط جهات إنفاذ القانون، وتُصبح معاقبة الأفراد المخالفين ذات جدوى، أما إذا بقي الحال على ما هو عليه، فستتكرر الأخطاء لأن البيئة مهيأة لإنتاجها.

ومن الأمثلة التي تُسلط المزيد من الضوء على هذه التعقيدات (حادثة الحريق الشهيرة في النصيرات)، التي وقعت في شهر مارس 2020، يومها اهتز كل قطاع غزة للحدث، وتبين أن سببه هو وجود مواد خطرة، وبكميات كبيرة في منطقة مزدحمة بالسكان والمارة والمتسوقين، وظهر أن هنالك خللا في منح التراخيص وتجديدها واتباع إجراءات السلامة والوقاية، وفي تلك اللحظة تم التحقيق، وتحميل المسئوليات، وفُرضت عقوبات، وأجريت تغييرات، واعتقد الكثيرون أن هذا إجراء كفيل بسحب المواد الخطرة من بين التجمعات السكانية.

استمرت هذه القناعة سارية المفعول إلى أن حدث الحريق والانفجار في منطقة سوق الزاوية في مدينة غزة في يوليو 2021، حيث فوجئنا أن هنالك من يضع مواد خطرة في أوساط الناس، وبغض النظر عن طبيعة المواد الخطرة، وهل استخداماتها تجارية أو وطنية، فإن هنالك من يعد أن من حقه وضع المواد الخطرة في أوساط الناس.

وبعيداً عن إمكانية وجود فساد في منح التراخيص، فإن مسألة الحق في مخالفة القانون بسبب الظروف الاقتصادية هي قناعة راسخة في أوساط كثيرة، وهذا له ما يبرره أحياناً في التعامل مع مشكلة البطالة في أوساط الشباب، وحاجتهم لعمل بسطات في الشوارع، خاصة في ظل قصور الجهات الحكومية في إيجاد حلول لمشكلة البطالة المستفحلة، لكن ما الذي يمكن أن يبرر مخالفة القانون لصالح مشاريع اقتصادية كبيرة، بمعايير البلد؟ الأصل ألا يوجد ما يبرر هذه المخالفات.

والأخطر من كل هذا وجود قناعات بضرورة مخالفة القانون لأسباب وطنية، كأن تجد سيارات مبرسنة وبلا لوحات أرقام، أو تخزين مواد خطرة في أماكن تجمعات سكنية، وهنا لا بد من التأكيد أن التزام القوانين والإجراءات مسألة في غاية الضرورة والوجوب، وأن علاج الخلل في منظومة القوانين لا يتم بخرقها، بل بإصلاحها وتعديلها بالنقاش العام، وعبر المؤسسات الرسمية.

آمل أن يكون قد حان الوقت الذي يكون فيه التزام القانون هو القيمة الأسمى في مجتمعنا، وأن نتخلص من كل التبريرات الاجتماعية والأمنية والوطنية التي تُسوِّغ للبعض مخالفة القانون.