للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وجهان: عسكري واستيطاني. وهما متكاملان، فالتجمعات الاستيطانية، بالإضافة إلى أنها مأهولة بالسكان، فهي بمثابة ثكنات عسكرية، تضم جيشاً رديفاً للجيش النظامي. ويسعى الاحتلال، عبر الاستيطان، إلى إرساء علاقة دائمة ووثيقة بين المستوطنين والأرض المصادرة التي يقيمون عليها، ويتمتعون بتسهيلاتٍ ترقى إلى إقامةٍ مجانية، يُعفى فيها المستوطنون من أثمان الماء والكهرباء والغاز، مع التمتع بإعفاءات ضريبية، ومنح مالية "تعويضا عن الخطر"، على الرغم من أنهم هم من يشكلون خطراً على محيطهم، ابتداء من سطوهم المسلح على أراضي الآخرين، ومروراً بشقّ الطرق الخاصة بهم التي تقتطع مزيداً من أراضي الرازحين تحت الاحتلال، إلى التعدّيات شبه الدائمة على الأشخاص، بمن فيهم الأطفال، وعلى الأملاك، وخصوصا الأشجار والمزروعات المحيطة بهم. أما الهدف الأبعد، فهو تغذية الوعي الإسرائيلي بأن دولتهم التي قامت على الاستيطان الزاحف في العام 1948 ما زالت تنمو، ويتواصل الاستيطان في دولةٍ بلا حدود نهائية حتى الآن، مع السعي الحثيث إلى جعل أي كيان فلسطيني مستقل مخترقاً ومُطوقاً بتجمعات المستوطنين ومدنهم، وحيث يحق لهؤلاء التسلح، والتجول بسلاحهم، علاوة على حماية الجيش ومواكبته لهم، فيما يُحظر على أصحاب الأرض امتلاك أي سلاحٍ دفاعي، حتى لو كان سلاحاً أبيض.
وبالنسبة لسلطات الاحتلال والأحزاب الدينية وغير الدينية المتطرفة، فإن الضفة الغربية التي يسمونها "يهودا والسامرة" هي أراضٍ يقيم فيها يهود يخضعون للقانون الاسرائيلي، وتتخلل تجمعاتهم مدنا وبلدات وقرى تخضع للسلطة الفلسطينية التي تنظم الحياة إدارياً، مع حق القوة المحتلة في استباحة أي مكانٍ تشاء، في الوقت الذي تشاء، لاعتقال من تريد، أو فض احتجاج جماهيري بالقوة النارية، ولا يحق للسلطة الفلسطينية حماية المحتجين.
وحين يتحدث في القدس، أمام طلبة جامعتها وهيئة التدريس فيها، رجل مثل المدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، ويصف المستوطنات بأنها جريمة حرب، وانتهاك متواصل للقانون الدولي الذي يحظر نقل سكان من أماكن إقامتهم، وإحلال سكان تابعين للسلطة المحتلة محلهم، فإن حديث الرجل يملأ فراغا يتركه كبار الساسة في العالم، ومنهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي شهد بعض الوقائع في زيارته أخيرا، ولم يرها في الوقت ذاته، على الرغم من أن بلاده لا تسبغ أي شرعية على المستوطنات، لكنها تعتبرها أمراً واقعا غير قابل للمساس به، وإن كان قابلاً للحديث حوله في مفاوضاتٍ شبه مستحيلة، مع استمرار الغزو الاستيطاني، برعاية حثيثة وتامة من حكومة الاحتلال.
أحسن رجل القانون الأرجنتيني، أوكامبو، صنعاً بحديثه الشجاع والنزيه على بعد أمتار من القدس العربية المطوقة بمستوطنات كبيرة. وفي حديثه الذي نشرته وسائل الاعلام ملخصا له الأربعاء، 31 مايو/ أيار، ما يمكن استخلاص المفيد والواجب منه، لصوغ سيناريوهات المواجهة القانونية والسياسية، فقد أوضح الرجل الذي يتمتع بصيت قوي في مواجهة الفساد والعسكرة في بلاده أن ملف الاستيطان في المحكمة الدولية يسير لصالح الجانب الفلسطيني الذي أحسن صُنعاً بالانضمام إلى الأمم المتحدة، وإلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية، وكرّس صورة فلسطين دولة واقعة تحت الاحتلال. ولم يكتم المحامي الدولي الضليع وأستاذ القانون أن أي قرار سوف تصدره المحكمة الدولية سوف يدين قيادات إسرائيلية، وهو ما يفسر الإرباك الإسرائيلي الحالي.
ويُذكر هنا أن حكومة نتنياهو نشطت، في الآونة الأخيرة، في توجيه سفاراتها عبر العالم، لبث أطروحات دعائية، مفادها بأن الأرض الفلسطينية (تتم سرقتها في واضحة النهار) لم تكن يوما خاضعة لسيادة فلسطينية! وكأن هذه الأرض كانت خاضعةً يوماً لسيادة اسرائيلية، أو أن الانتداب البريطاني لم يكن يفرض وجوده على أرض فلسطين، أو أن أحداً في العالم يُسبغ شرعية على الاحتلال المتوحش الذي يجمع بين العسكرة والاستيطان البشري لوافدين قادمين من وراء البحار، كي ينتزع هؤلاء من أبناء البلاد أرضهم، ويهدّدوا حاضر الأجيال ومستقبلها.
أمام الجانب الفلسطيني فرصة لاستئناف "التفاوض"، ولكن ليس في غرفٍ مغلقة مع ممثلي الاحتلال، بل في منازلة قانونية، مسرحها أعلى هيئة قضائية دولية، وحيث يجزم أحد أركان هذه المحكمة، إلى وقت قريب، أن الجانب الفلسطيني "سينتصر في هذه المواجهة، وأن كل المحامين الذين سيجندهم الاحتلال لن يتمكّنوا من حمايته من المسؤولية الجنائية عن هذه الانتهاكات".
ليس معلوماً التسلسل الزمني لإجراءات المحكمة الدولية، غير أن هذا الملف يستحق أن يشكّل مادة للمواجهة السياسية في هذه الظروف، وحيث تقترب الذكرى الخمسون لوقوع الاحتلال الغاشم على قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس (إضافة إلى الجولان السوري). إنها مناسبة لإبراز الموقف القانوني والسياسي من الاستيطان على أوسع نطاق، وبمختلف أشكال التعبير ووسائطه، باعتبار الاستيطان من أشكال إرهاب الدولة المحتلة، ومن أعمال السطو المسلح التي تقوم بها الدولة العبرية، متحدّيةً كل الأعراف والمواثيق والقوانين، مع تحويلها أعمال اللصوصية المشينة هذه إلى مناسبات وأعياد واحتفالات وطنية، وحيث تهدّد هذه الأنشطة فرصة إقامة سلام عادل، ومن شأنها تأجيج الصراع وإدامته إلى عقود لاحقة، وبث ثقافة الكراهية والتحريض بأكثر مظاهرها عدوانية وصفاقة.
ولا تفوت بهذه المناسبة إشارة الرجل الأرجنتيني النزيه، أوكامبو، إلى أهمية تحرك المجتمع المدني الفلسطيني والمراكز القانونية في الجامعات، على جبهة مقارعة الاستيطان وكشف ما ينطوي عليه من تعدّيات جسيمة، وحيث يكاد يخفت صوت منظمات المجتمع المدني في هذا الخصوص، فيما لا تنشط الجامعات الفلسطينية والعربية، كما هو مأمول، لخوض هذه المواجهة المستحقة، بينما ترتفع أصوات جامعات أوروبية، وحتى أميركية، ضد إدمان القوة الإسرائيلية على تعدّياتها التي تتخذ طابعاً عنصرياً مكشوفاً، وفيما تتفق البشرية على أن العنصرية من أسوأ الآفات التي تستحق كشفها ومناهضتها بلا هوادة.
يبقى التأكيد، في خاتمة هذا العرض، على أن المرحلة الحالية تشهد جهدا إسرائيلياً محموماً لدفن حل الدولتين، وتجويف دور السلطة وسلبها أية ولاية على أرضها وشعبها، وإتمام تهويد القدس والسيطرة على الأماكن المقدسة فيها، والسعي إلى تجديد التطبيع العربي مع الدولة المحتلة، بهدف تطويق الكيان الفلسطيني الناشئ، وحرمانه من أي امتداد له في عمق محيطه القومي، وتأمين تسلل الدولة العبرية إلى العالم العربي تحت مزاعم سلمية خرقاء.. بما يجعل المواجهة مع الاستيطان أمرا واجبا من أجل كسر الحلقة الأخطر في المشروع الصهيوني التوسّعي.