تعاني حركة فتح وقيادتها في اللحظة الراهنة، جملةً من المشكلات البنيوية المستعصية، وبلغت هذه المشكلات حد الاستعصاء، لأن قيادة حركة فتح خلال العقود الأربعة الأخيرة اعتمدت جملة من التكتيكات، التي لا يربطها ناظم استراتيجي، في التعامل مع مشكلاتها المزمنة، وربما كانت أوضاع البلاد تسمح في تلك الأوقات لحركة فتح أن تتبع تلك التكتيكات التي فاقمت الأزمات والمشكلات. سيحاول هذا المقال تشخيص أهم المشكلات التي تعانيها حركة فتح في اللحظة الراهنة، إضافة إلى محاولة استكشاف المستقبل الذي ينتظرها، أو الذي تتحرك باتجاهه.
المشكلة الأولى التي تعانيها حركة فتح وقيادتها، تتمثل في أنها سيطرت خلال العقود الخمسة الأخيرة على مقدرات الشعب الفلسطيني منفردة، وأقنعت نفسها تارة أنها تقود ديمقراطية فريدة من نوعها، كأن تقول عن النموذج الذي تقوده، أو تسيطر عليه (ديمقراطية غابة البنادق)، وتارة أُخرى رأت في نفسها (العمود الفقري) للثورة الفلسطينية المعاصرة، وهذان المصطلحان متناقضان، لأن الديمقراطية تتطلب وجود بنية ومؤسسات عامة للثورة يملكها الشعب، وليس الفصيل، أما فكرة العمود الفقري فإنها تعني أن حركة فتح هي الحامل الرئيس للثورة، وأن بقية الفصائل والمؤسسات تتكئ عليها، ولا تستطيع الاستمرار دونها.
وهكذا عاشت قيادة حركة فتح طوال العقود الخمسة الماضية تقول ما تريد، وتسيطر على ما تشاء، وتهيمن على كل شيء، وتؤكد هذه الهيمنة باستمرار، وفي الوقت نفسه تدعي أن تقود بشكل ديمقراطي، ساعدها على ذلك في البداية الفعل الكفاحي الذي مارسته على الأرض، وبعد ذلك اتكأت على إرث ذلك الكفاح، إضافة إلى سيطرتها على المال والمؤسسات والإعلام.
لقد تغيّر كل هذا، وقيادة حركة فتح لا تريد أن ترى التغيّر، وما زالت تُصر على أنها صاحبة الرصاصة الأولى، ومخترعة ديمقراطية غابة البنادق، وأنها العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، ولا تستطيع استيعاب أن هنالك منافسين حقيقيين، وأصحاب حق في المنافسة على الأرض.
المشكلة الثانية تتعلق ببناء وبنية السلطة في غزة والضفة الغربية، ربما تكون قيادة فتح، عندما ذهبت إلى أوسلو منفردة، وعندما فرضت مؤسساته على الأرض بالقوة، ربما قد أرادت بالفعل إيجاد قاعدة داخل أرض الوطن تُلملم فيها شعث الحركة الوطنية الفلسطينية، لكن لا الاتفاقيات، ولا السلوك العملي على الأرض كانت تسمح بهذا، ووجدت حركة فتح نفسها تبني سلطة تحت الاحتلال، وتعمل في خدمته، وتوجه عنفها ضد من لا يزال يرى في الاحتلال عدواً مستعمراً، وبالفعل فقد أراحت حركة فتح وأجهزتها الأمنية الاحتلال من أعباء المسؤولية القانونية والعملية عن الأرض المحتلة، وفي الوقت نفسه، ومن خلال التنسيق الأمني مكنته من التوسع الاستعماري الاستيطاني في أراضي الضفة الغربية بما يشمل القدس.
لقد أصبحت السلطة من هذه الزاوية عبئاً على الشعب الفلسطيني، خاصة أن الاتفاقيات والممارسات على الأرض، جعلت التدفق المالي للسلطة يمر عن طريق الاحتلال، وربطته بمدى قدرة هذه السلطة على إثبات جدارتها الأمنية في منع عمليات المقاومة ضد الاحتلال، ولا تستطيع السلطة أن تعمل، بل لا تستطيع أن تتنفس إلا من رئة الاحتلال المالية، أي بنوكه.
والمشكلة الثالثة أن قيادة حركة فتح عندما وقعت اتفاقية أوسلو لم تنتبه إلى أن دولة الاحتلال تعيش مأزقاً كبيراً، لو أُدرِك هذا المأزق لاستطاعت قيادة حركة فتح الضغط على الاحتلال، ولتمكنت من الحصول على اتفاقيات أفضل، لكنها لم تفعل هذا، لأنها كانت متأثرة بأزمتها هي، لكن ما مأزق دولة الاحتلال في ذلك الوقت؟
تمثل مأزق دولة الاحتلال في ذلك الوقت أنها مضطرة لإجراء تحولات اقتصادية داخلية انسجاماً مع اتفاقية التجارة العالمية، وشروط البنك وصندوق النقد الدوليين، هذه التحولات كانت ستزيد الفجوة الاقتصادية بين الفلسطينيين واليهود، وكان من شأن نشوء مثل هذه الحالة أن تُحوِّل (إسرائيل) إلى دولة أبارتهايد (أي تمييز عنصري)، وحينها سيصعب على دول الغرب تبرير سلوكها العنصري، خاصة أن نضال السود في جنوب إفريقيا ضد التمييز العنصري كان قد بلغ ذروته.
هذا المأزق كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت دولة الاحتلال للذهاب إلى المفاوضات مع قيادة حركة فتح، لكن لم تُستوعَب هذه المسألة في ذلك الوقت، وعليه تصرفت قيادة حركة فتح من موقع الضعيف، والراغب في الخروج من أزمته، والعاجز عن رؤية أزمة عدوه، والضغط عليه، وتحسين شروط التفاوض، وكانت النتيجة أن دولة الاحتلال نجت من ورطة استراتيجية لو واصلت استمرار الاحتلال بأساليبه التقليدية.
أما المشكلة الرابعة فتتمثل في أن مشروع أوسلو وصل إلى نهايته، بمعنى أنه لم تعُد هنالك إمكانية لإقامة دولة، ولا حتى مجالًا لتقديم وعود للناس بإقامة هذه الدولة، لأن الحقائق على الأرض أصبحت واضحة لكل الناس، فالاستيطان الزاحف تحت حماية التنسيق الأمني جعل الوجود الفلسطيني في الضفة أشبه بالجزر الصغيرة في محيط من المستوطنات. وعليه أصبحت السلطة، لا هي قادرة على منع زحف المستوطنين، ولا هي قادرة على إطلاق يد الناس في مقاومته.
والمشكلة الخامسة تتمثل في أن النظام السياسي الذي تقوده حركة فتح بلغ حالة من العجز والفساد والتكلُّس أفقد هذه القيادة كل أنواع الشرعية القانونية والثورية، وكذلك شرعية تسويق الوعود أو تحقيق الإنجازات، ومنذ عقد ونصف استطاعت قيادة حركة فتح ادعاء شرعية لذاتها باعتبارها الطرف الوحيد القادر على الحصول على موافقة (إسرائيل) على تسهيل حياة الناس في الضفة وغزة، لكن هذا لم يعُد يكفي، وأصبحت هذه القيادة غير قادرة على تجديد شرعيتها، وهي اليوم تخشى الذهاب للانتخابات، ولا تفعل شيئًا من أجل محاربة الفساد أو مقاومة الاحتلال... إلخ.
والمشكلة السادسة، والأخيرة لهذا المقال، فتتمثل في أن حركة فتح لم تعُد قادرة على ابتكار تكتيكات تنقذها من الورطة الحالية، فلا التاريخ، ولا الإنجاز، ولا التمويه، ولا الديكورات الديمقراطية قادرة على أن تُسعفها، خاصة أن الخلافات داخل الحركة أصبحت أكبر من قدرة قيادة الحركة على احتوائها.
وبناء عليه، إما أن تعترف حركة فتح بهذه المعضلة، وتبتعد عن العقلية التكتيكية في التعامل مع المشكلات، وتلجأ إلى تقديم رؤية استراتيجية تبدأ من الاعتراف بالأخطاء، وتعتذر عنها، وتعتمد شراكة حقيقة تفتح الأبواب أمام الإرادة الشعبية، وإلا فهي ذاهبة إلى مزيد من التفسّخ والتشظي، ولن تُجدي قياداتها كل التهديدات التي يطلقونها، والإغراءات التي يحاولون شراء الذمم بها.