لم نكن ننتظر حادثة قتل الناشط والمعارض الفلسطيني نزار بنات لنعرف أن السلطة الفلسطينية وصلت إلى مرحلةٍ ما عاد لوجودها أي معنى سوى خدمة الأمن الإسرائيلي. فكيف من الممكن تخيل أن هيكلاً سياسياً، هو عملياً أدنى من مستوى سلطة بلدية، وفي الأساس يقوم على مشروع وطني تحرّري، من الممكن أن يتحوّل إلى مشروع قمعي دكتاتوري على غرار كثير من الأنظمة العربية المحيطة؟
مراحل سقوط السلطة الفلسطينية كثيرة، ولن تكون قضية قتل نزار بنات تحت التعذيب آخرها، فهذه السلطة عملياً فقدت مبرّر وجودها الأساس الذي قام بعد "أوسلو" باعتبارها نواة دولة فلسطينية على حدود الأراضي المحتلة عام 1967، وتحوّلت، بسرعة قياسية، إلى منفذة للأجندات الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية تحديداً، عبر ما يسمّى التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإلى مؤسساتٍ خدماتيةٍ هدفها تأمين الوظائف لكثير من سكان الضفة وغزة، قبل الحسم العسكري في 2007، مقابل نيل الولاء المطلق وأخذ المشروعية لهذه السلطة.
منذ نهاية مشاريع التسوية السياسية الكثيرة التي قامت بعد "أوسلو"، سواء في كامب ديفيد الثاني أو بعد ذلك في المقترحات التي قدّمت لاستئناف المفاوضات السياسية، والتي كان آخرها في عهد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم تعد السلطة إلا كياناً فاقداً أبعاده السياسية، ومكتفياً بالدور الخدماتي الذي يسمح به الاحتلال والدول المانحة. لكن الأنكى أن أطرافاً كثيرة في هذه السلطة، غير المجدية، تتصرّف وفق منطق صراعات داخلية ومحاصصات غير موجودة، حتى في دول قائمة فعلياً، فما بالك في سلطةٍ أدنى من بلدية لا تملك مقومات اتخاذ قرارات في مسائل جوهرية لها علاقة بالحياة العامة.
ومع ذلك، تمارس هذه اللاسلطة وأجهزتها الأمنية كل الأدوار القذرة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في الأنظمة الدكتاتورية. وما قضية نزار بنات إلا القشّة التي قصمت ظهر البعير، فخلال العدوان على قطاع غزة، لم تتوان الأجهزة الأمنية التابعة لهذه السلطة عن منع المتظاهرين من تصعيد المواجهة مع قوات الاحتلال في الضفة الغربية، ولو لم تكن الموجة الشعبية أكبر من قدرة السلطة على استيعابها، لكُنّا شهدنا مواجهات أكبر بين المتظاهرين والقوات الأمنية الفلسطينية، غير أن حالة الغضب الشعبي كانت عارمة، ومن غير الممكن ضبطها، لذا رأينا التجمعات في المدن الكبرى في الضفة الغربية، مع أعلام حركة حماس فور انتهاء العدوان، وهو ما واجهته السلطة لاحقاً بعمليات اعتقال وتوجيه رسائل تحذير إلى من شارك في هذه التجمّعات، في إطار الدور الأمني الصرف الذي تقوم به هذه السلطة وأجهزتها.
اليوم، وبعد مقتل بنات، بدأت تخرج أصوات تطالب باستقالة رأس السلطة الفلسطينية، وظهرت تشبيهاتٌ تتحدّث عن "ربيع فلسطيني" على غرار الربيع العربي، خصوصاً أن الشرارة التي أطلقت موجة الاحتجاجات العربية تشبه مثيلتها بعد مقتل محمد البوعزيزي في تونس. الفوارق كبيرة، ولا يمكن الحديث عن انتفاضة على سلطةٍ لا تملك سلطة، والتصرّف معها باعتبارها نواة دولة، وهو أمر انتهى منذ ما بعد الانتفاضة الثانية وخسارة السلطة كل الأراضي التي كان من المفترض أنها مسيطرة عليها حسب تصنيف "أ" و"ب". ربما من الأجدى اليوم أن تكون المطالبة بإنهاء هذه السلطة نهائياً لأكثر من سبب، أولها أننا لسنا بحاجة إلى سلطةٍ قمعية عربية جديدة، هذا في حال كان هناك أمل ما بالوصول إلى مسمى "الدولة" الذي كان أساس اتفاق أوسلو. وثانيها، وربما أهمها، أن هذه السلطة فقدت القوام الذي كانت قائمةً عليه في ظل انسداد الأفق السياسي، وبالتالي من الأجدى إنهاء الدور الوظيفي الذي تقوم به اليوم هذه السلطة، وهو دور ليست له علاقة بالمشروع الوطني الفلسطيني، ورمي كرة الاحتلال في الملعبين، الإسرائيلي والدولي، والعودة إلى ما قبل اتفاق أوسلو. مؤكّد أن هذا الأمر ليس وارداً في أذهان المسؤولين الفلسطينيين المستفيدين من الحد الأدنى من الامتيازات التي تقدّمها (إسرائيل)، لكن لا بأس في أن تصدح به حناجر المتظاهرين، فهذه السلطة وصلت إلى قاعٍ من الأفضل عنده إنهاؤها.