أي غايةٍ كانت وراء الزيارة "الودية جدًا" التي قام بها رئيس السلطة، محمود عبّاس، إلى منزل وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس قرب تل أبيب؟ سؤال يراود كثيرين منذ الإعلان عن هذه الزيارة من دون ترتيبات مسبقة، خصوصًا مع ما تسرّب عنها من معلومات، على الأقل عبر الصحافة الإسرائيلية، تصبّ كلها في المجمل في خدمة الأمن القومي الإسرائيلي، من دون أن ينال الفلسطينيون، أو ممثلوهم، أي مكاسب، باستثناء ما أُعلن عن منح بعض الإقامات وبطاقات الشخصيات المهمة، وهي مكاسب شخصية عمومًا، إضافة إلى بعض أموال الضرائب التي تحتجزها دولة الاحتلال، وهي حقّ للسلطة الفلسطينية، وليست هبةً من غانتس لأبو مازن.
يمكن القول، وبناء على التسريبات والمعطيات، أن عنوان الزيارة الأساس كان "تحذير إسرائيل من انفجار قادم". هذا ما أوردته الصحف في الدولة العبرية، إذ إن أبو مازن تحدّث عن "مخططات" لحركتي حماس والجهاد الإسلامي لتفجير الوضع في الضفة الغربية. وهو بالتأكيد أبدى معارضة شديدة أمام غانتس لهذه "المخططات"، إن وجدت، وتعهد بتكثيف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال لمنع تنفيذها. وعلى هذا الأساس خرجت المصادر الإسرائيلية لتصف الزيارة بأنها كانت "مهمة جدًا لأمن إسرائيل".
لم يخرج أحد من السلطة الفلسطينية لينفي المعلومات والتسريبات، بل على العكس فإن تصريحات وزير الشؤون المدنية الفلسطيني، حسين الشيخ، أكّدت فحوى هذه المعطيات. إذ رأى الشيخ، في تغريدة نشرها على حسابه في "تويتر"، أن لقاء عبّاس مع الوزير غانتس هو "تحدٍ كبير، والفرصة الأخيرة قبل الانفجار، والدخول في طريق مسدود". إذن، الزيارة فعلًا "تحذيرية" لكن ليس مما يمكن أن تفعله السلطة الفلسطينية، بل مما قد لا يمكن لهذه السلطة أن تمنعه رغم رغبتها في ذلك، وهو ما أبداه عبّاس صراحة، فالأخير طالب غانتس بالعمل على وقف اعتداءات المستوطنين اليومية في الضفة الغربية، ليتمكن هو في المقابل من ضبط الشارع وإحباط "مخططات تفجير الوضع" في الأراضي المحتلة.
هي خدمة مقابل خدمة للحفاظ على استمرارية السلطة وقدرتها على القيام بوظيفتها خطّ دفاع أول للأمن الإسرائيلي عبر التنسيق الأمني الذي أصر عبّاس خلال اللقاء على أنه سيستمر فيه ولن يتخلى عنه، على الرغم من التجاهل الإسرائيلي التام لكل مطالب السلطة الفلسطينية وآمال أبو مازن بالمفاوضات والتسوية، فالرئيس الفلسطيني، وبحسب التسريبات أيضًا، أبلغ غانتس أنه يدرك أن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الهشّ لا يسمح لهذه الحكومة في الخوض بمفاوضات مع الفلسطينيين في الوقت الراهن. وأيضًا لم يخرج أحدٌ لينفي معلومات كهذه، لتكون التصريحات اللاحقة لحسين الشيخ ومن ثم محمود عبّاس فارغة من أي مضمون حقيقي من الممكن تطبيقه.
فوزير الشؤون المدنية الفلسطيني، وفي التغريدة نفسها التي تطرق فيها إلى "الانفجار"، تحدث عن أن اللقاء كان "محاولة جدية جريئة لفتح مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية، ويضع حدا للممارسات التصعيدية ضد الشعب الفلسطيني". وأول من أمس، وفي خطاب بمناسبة الذكرى الـ57 لانطلاقة حركة فتح، أعاد الرئيس الفلسطيني الحديث عن مؤتمر سلام، وهو الذي تطرّق إليه في أكثر من مناسبة، إذ قال "نمدّ أيدينا لصنع السلام العادل والشامل وفي إطار مؤتمر دولي يُعقد وفقا لقرارات الشرعية الدولية، وبرعاية الرباعية الدولية بهدف إنهاء الاحتلال لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس".
ما بين التصريحات العلنية لعبّاس وحسين الشيخ عن التسوية، وما بين التسريبات التي تشير إلى أن أبو مازن مدركٌ استحالة استئناف المفاوضات، فإن الزيارة "الودّية" لا تبدو مرتبطةً بأي فتح للأفق السياسي، بل هي تكريس لواقع الوظيفة الأمنية للسلطة الفلسطينية وتأمين مقوّمات صمودها إسرائيليًا، وهو ما يبدو أن غانتس حققه لعبّاس.