لم يكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بحاجة إلى كل هذه الديباجة الوطنية الوهمية لتسويغ تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فالجميع كان يعلم أن هذه الانتخابات ما كان لها أن تمضي إلى خواتيمها، وأن نتائجها ستكون كارثية على رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة فتح، سواء شارك أهالي القدس في الانتخابات أم لم يشاركوا، حتى في حال الموافقة الإسرائيلية على السماح للمقدسيين بالتصويت في الانتخابات، كانت الرئاسة الفلسطينية ستجد ذريعة أخرى لإلغاء هذا الاستحقاق.
لكن القرار الإسرائيلي (ربما المنسّق) جاء بردًا وسلامًا على السلطة الفلسطينية، ليخرج أبو مازن بخطاب "وطني" يأبى المضي في الاستحقاق الانتخابي من دون القدس، وهو الإعلان الذي لم يكن مفاجئًا، بل كان معلومًا ومنتظرًا منذ اللحظات الأولى لبدء حالة التشقّق في حركة فتح ودخول القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي في مواجهة مباشرة مع محمود عباس، لكن قيادة "فتح" ما زالت تعوّل على قدرة السلطة ومقوماتها، من نواحي الترغيب والترهيب والتوظيف، على تفريغ هذه المواجهة من قدرتها على التأثير في قوة السلطة الفلسطينية، غير أن نتائج استطلاعات الرأي، وما أظهرته من خسارة متوقعة لحركة فتح، سواء في مواجهة البرغوثي أم أمام "حماس"، أخرجت أبا مازن عن طوره، وهو ما أظهره التسجيل الصوتي المسرّب في الاجتماع الذي كان مخصّصًا لمناقشة نتائج الاستطلاعات.
قرار أبي مازن تأجيل الانتخابات نزع فتيل تفجير حركة فتح، مؤقتًا، من دون أن يلغي انعكاسات الانقسام في الحركة، التي سيكون لها آثار على المدى البعيد، في حال لم تتدارك في الأيام المقبلة، ويحاول رأب الصدع الذي أحدثه تعنّت عباس نفسه، وإقصاؤه كوادر في الحركة، لمجرد معارضتها أو إعلانها تأييد مروان البرغوثي في الترشّح للرئاسة.
لكن من يعرف أبا مازن يدرك أنه ليس في وارد إصلاح الوضع في داخل الحركة، فقرار تأجيل الانتخابات، أو إلغائها محاولة لشراء الوقت، خصوصًا أن لا معطيات تشير إلى إمكان تراجع (إسرائيل) عن قرار عدم السماح بإجراء الانتخابات في القدس، وهو الذريعة التي على أساسها نسف الاستحقاق الانتخابي.
على هذا الأساس، وإذا كان هذا هو المانع من إجراء الانتخابات؛ فإنها لن تحصل مطلقًا، أما الأسباب التي من أجلها دعي إلى الانتخابات، أي إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية؛ فإن عباس حاول تداركها بالدعوة إلى حكومة وحدة وطنية، في مسعى إلى استرضاء حركة حماس التي ترى نفسها أكبر المتضرّرين من إلغاء الانتخابات، خصوصًا أنها كانت تسعى إلى الخروج من حالة الحصار الذي تعيشه منذ 15 عامًا في قطاع غزة، لكن حتى دعوة عباس إلى تشكيل هذه الحكومة لن تجد لها أي أرضية للتطبيق، إذ إن سوابق كثيرة ودعوات مماثلة خرجت في أكثر من مناسبة، لكنها اصطدمت بجدار المحاصصات التي لم يخرج منها طرفا الانقسام الفلسطيني.
قرار تأجيل الانتخابات اليوم سيعيد ملف الانقسام الفلسطيني إلى الواجهة مجدّدًا، لكنه هذه المرة سيكون انقسامًا متعدّد الأوجه، وأخطر مما كان عليه، فإذا كان الانقسام الأول بين "حماس" و"فتح" أخذ طابعًا سياسيًّا وجغرافيًّا بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فإن الانقسام الحالي بات في داخل البيت الفتحاوي، وفي أرجاء فلسطين والشتات، وقد يتخذ أشكالًا متعدّدة في الأيام المقبلة.
قد لا تقف الانعكاسات عند حدود الداخل الفلسطيني، خصوصًا أن الانتخابات كان من الممكن لها أن تساعد السلطة على كسر الحصار الذي فرضه عليها دونالد ترامب على الساحة الدولية، لا سيما أن مواقف دولية كثيرة أسفت لقرار التأجيل، وهو ما سينعكس لاحقًا على السلطة.
كان من المعلوم أن الرئاسة الفلسطينية ستذهب إلى تأجيل الانتخابات، لكن ما هو غير معلوم إلى أين سيؤدّي هذا القرار، وما الارتدادات المرتقبة على المشهد السياسي الفلسطيني.